للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ (وَمَنْ حَلَفَ لَيَصْعَدَن السَّمَاءَ أَوْ لَيَقْلِبَن هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ وَحَنِثَ عَقِيبَهَا) وَقَالَ زُفَرُ: لَا تَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ عَادَةً فَأَشْبَهَ الْمُسْتَحِيلَ حَقِيقَةً فَلَا يَنْعَقِدُ. وَلَنَا أَنَّ الْبِرَّ مُتَصَوَّرٌ حَقِيقَةً لِأَنَّ الصُّعُودَ إلَى السَّمَاءِ مُمْكِنٌ حَقِيقَةً؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَصْعَدُونَ السَّمَاءَ وَكَذَا تَحَوُّلُ الْحَجَرِ ذَهَبًا بِتَحْوِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ

الْبِرِّ مِنْ وَقْتِ الْحَلِفِ إلَى الْمَوْتِ، وَفِي الْمُقَيَّدَةِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ تَنْعَقِدُ بِهِ اتِّفَاقًا، فَإِذَا أُهْرِيقَ قَبْلَ آخِرِ الْوَقْتِ بَطَلَتْ عِنْدَهُمَا لِانْعِقَادِهَا ثُمَّ طَرَأَ الْعَجْزُ عَنْ الْفِعْلِ قَبْلَ آخِرِ الْمُدَّةِ لِفَوَاتِ شَرْطِ بَقَائِهَا وَهُوَ تَصَوُّرُ الْبِرِّ حَالَ الْبَقَاءِ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ، وَعِنْدَهُ يَتَأَخَّرُ الْحِنْثُ إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ فَهُنَاكَ يَحْنَثُ.

وَفِي الْمُطْلَقَةِ وَلَا مَاءَ لَا تَنْعَقِدُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ تَنْعَقِدُ، وَيَحْنَثُ لِلْعَجْزِ الْحَالِيِّ الَّذِي لَا يُرْجَى زَوَالُهُ، وَفِي الْمُطْلَقَةِ وَفِيهِ مَاءٌ تَنْعَقِدُ اتِّفَاقًا لِإِمْكَانِ الْبِرِّ عِنْدَهُمَا، فَإِذَا أُرِيقَ حَنِثَ اتِّفَاقًا. أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَبِطَرِيقٍ أَوْلَى مِمَّا قَبْلَهُ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ تَصَوُّرَ الْبِرِّ لَيْسَ شَرْطًا فِي الْمُطْلَقَةِ إلَّا لِانْعِقَادِهَا فَقَطْ وَقَدْ وُجِدَ حَالَ الِانْعِقَادِ لِفَرْضِ وُجُودِ الْمَاءِ حَالَ الْحَلِفِ، فَقَدْ فَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ الْمُقَيَّدَةِ فَأَوْجَبَ الْحِنْثَ مُطْلَقًا آخِرَ الْوَقْتِ وَبَيْنَ الْمُطْلَقَةِ إذَا كَانَ الْمَاءُ مَوْجُودًا حَالَ الْحَلِفِ فَأَوْجَبَ الْحِنْثَ حَالَ الْإِرَاقَةِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فَالْحِنْثُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْيَمِينِ.

وَلَا فَرْقَ أَنَّ التَّأْقِيتَ لِلتَّوْسِعَةِ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْفِعْلِ فَلَا يَتَعَيَّنُ الْفِعْلُ عَلَيْهِ إلَّا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ، وَإِنْ كَانَ التَّأْخِيرُ لَا يُرْجَى لَهُ فَائِدَةٌ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَاءٌ وَقْتَ الْحَلِفِ لَكِنَّ اللَّفْظَ مَا أَوْجَبَ انْعِقَادَ الْيَمِينِ فِي حَقِّ الْفِعْلِ مُضَيَّقًا مُتَعَيَّنًا إلَّا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْهُ فَلَا يَحْنَثُ قَبْلَهُ. وَكَذَا إذَا كَانَ فِيهِ مَاءٌ فَصُبَّ لِهَذَا بِعَيْنِهِ، بِخِلَافِ الْمُطْلَقَةِ وَلَا مَاءَ فَإِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي تَأْخِيرِ الْحِنْثِ. وَإِنْ كَانَتْ الْيَمِينُ الْمُطْلَقَةُ لَا يَقَعُ الْحِنْثُ فِيهَا إلَّا بِمَوْتِ الْحَالِفِ أَوْ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ حَلِفِهِ عَلَى ضَرْبِهِ أَوْ طَلَاقِهَا.

فَإِنَّ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْبِرُّ مَرْجُوًّا وَلَا رَجَاءَ لَهُ هُنَا. وَفِيمَا إذَا كَانَ الْمَاءُ مَوْجُودًا لَا يَثْبُتُ هَذَا الْيَأْسُ إلَّا عِنْدَ الْإِرَاقَةِ فَيَحْنَثُ إذْ ذَاكَ، وَهُمَا أَيْضًا يَحْتَاجَانِ إلَى الْفَرْقِ لِأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَهُمَا إذَا ذَكَرَ الْوَقْتَ فَأُهْرِيقَ قَبْلَ آخِرِهِ. وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ فَأُهْرِيقَ يَحْنَثُ. وَالْفَرْقُ أَنَّ الْوَقْتَ إذَا ذُكِرَ كَانَ الْبِرُّ وَاجِبًا عَلَيْهِ فِي الْجُزْءِ الْأَخِيرِ وَعِنْدَهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فَائِتٌ فَكَأَنَّهُ حَلَفَ إذْ ذَاكَ لَيَشْرَبَن مَا فِي هَذَا الْكُوزِ الْيَوْمَ.

وَعَلِمْت بِهَذَا أَنَّ اشْتِرَاطَهُمَا بَقَاءَ التَّصَوُّرِ لِبَقَاءِ الْيَمِينِ الْمُؤَقَّتَةِ هُوَ فِي الْمَعْنَى اشْتِرَاطُ التَّصَوُّرِ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ الْمُطْلَقَةِ. بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَذْكُرْ الْوَقْتَ فَإِنَّ الْبِرَّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، فَإِذَا فَاتَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ حَنِثَ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: وُجُوبُ الْبِرِّ فِي الْمُطْلَقَةِ فِي الْحَالِ إنْ كَانَ بِمَعْنَى تُعِنْهُ حَتَّى يَحْنَثَ فِي ثَانِي الْحَالِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْوُجُوبِ الْمُوَسَّعِ إلَى الْمَوْتِ فَيَحْنَثُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْحَيَاةِ فَالْمُؤَقَّتَةُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إلَّا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ الَّذِي ذَكَرَهُ فَذَلِكَ الْجُزْءُ بِمَنْزِلَةِ آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْحَيَاةِ فَلِأَيِّ شَيْءٍ تَبْطُلُ الْيَمِينُ عِنْدَ آخِرِ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ فِي الْمُؤَقَّتَةِ وَلَمْ تَبْطُلْ عِنْدَ آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْحَيَاةِ فِي الْمُطْلَقَةِ.

وَمِنْ فَوَائِدِ هَذِهِ الْخِلَافِيَّةِ مَا لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَتِهِ إنْ لَمْ تَهَبِي لِي صَدَاقَك الْيَوْمَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَالَ أَبُوهَا إنْ وَهَبْت لَهُ صَدَاقَك فَأُمُّك طَالِقٌ، فَحِيلَةُ عَدَمِ حِنْثِهِمَا أَنْ تَشْتَرِيَ مِنْهُ بِمَهْرِهَا ثَوْبًا مَلْفُوفًا وَتَقْبِضَهُ، فَإِذَا مَضَى الْيَوْمُ لَمْ يَحْنَثْ أَبُوهَا لِأَنَّهَا لَمْ تَهَبْ صَدَاقَهَا وَلَا الزَّوْجُ لِأَنَّهَا عَجَزَتْ عَنْ الْهِبَةِ عِنْدَ الْغُرُوبِ لِأَنَّ الصَّدَاقَ سَقَطَ عَنْ الزَّوْجِ بِالْبَيْعِ، ثُمَّ إذَا أَرَادَتْ عَوْدَ الصَّدَاقِ رَدَّتْهُ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَيَصْعَدَن السَّمَاءَ أَوْ لَيَقْلِبَن هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ وَحَنِثَ عَقِيبَهَا) يَعْنِي إذَا حَلَفَ

<<  <  ج: ص:  >  >>