وَالْيَمِينُ بَاقِيَةٌ قَبْلَ الْغَايَةِ وَمُنْتَهِيَةٌ بَعْدَهَا فَلَا يَحْنَثُ بِالْكَلَامِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْيَمِينِ (وَإِنْ مَاتَ فُلَانٌ سَقَطَتْ الْيَمِينُ) خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْمَمْنُوعَ عَنْهُ كَلَامٌ يَنْتَهِي بِالْإِذْنِ وَالْقُدُومِ وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ الْمَوْتِ مُتَصَوَّرُ الْوُجُودِ فَسَقَطَتْ الْيَمِينُ. وَعِنْدَهُ التَّصَوُّرُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، فَعِنْدَ سُقُوطِ الْغَايَةِ تَتَأَبَّدُ الْيَمِينُ.
وَإِمَّا أَنَّ إلَّا أَنْ غَايَةٌ فَلِأَنَّ بِهِ يَنْتَهِي مَنْعُ الْكَلَامِ فَشَابَهَتْ الْغَايَةَ إذَا كَانَتْ الْغَايَةُ لِمَنْعِهِ فَأَطْلَقَ عَلَيْهَا اسْمَهَا، وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى ﴿لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ﴾ أَيْ إلَى مَوْتِهِمْ.
وَقِيلَ هِيَ اسْتِثْنَاءٌ عَلَى حَالِهَا وَفِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ تَقْدِيرَ الِاسْتِثْنَاءِ فِيهَا إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْأَوْقَاتِ أَوْ الْأَحْوَالِ عَلَى مَعْنَى " امْرَأَتُهُ طَالِقٌ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ أَوْ الْأَحْوَالِ إلَّا وَقْتَ قُدُومِ فُلَانٍ أَوْ إذْنِهِ وَإِلَّا حَالَ قُدُومِهِ أَوْ إذْنِهِ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ إلَى الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْ أَنْ يَقْدَمَ وَأَنْ يَأْذَنَ، فَإِنَّ تَقْدِيرَ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ إلَّا إذْنُهُ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ تَقْيِيدَ الْكَلَامِ بِوَقْتِ الْإِذْنِ وَالْقُدُومِ، فَيَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ كَلَّمَهُ بَعْدَ الْقُدُومِ أَوْ الْإِذْنِ حَنِثَ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ أَوْقَاتِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ إلَّا ذَلِكَ الْوَقْتَ وَهُوَ غَيْرُ الْوَاقِعِ، ثُمَّ أَوْرَدَ أَنَّ " إلَّا أَنْ شَرْطٌ لَا غَايَةٌ لِأَنَّهَا شَرْطٌ فِي قَوْلِهِ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ إلَّا أَنْ يَقْدَمَ زَيْدٌ فَإِنَّ الْمَعْنَى إنْ لَمْ يَقْدَمْ زَيْدٌ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ لِلْغَايَةِ فِيمَا يُحْتَمَلُ التَّأْقِيتُ وَالطَّلَاقُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُهُ: يَعْنِي فَتَكُونُ فِيهِ لِلشَّرْطِ اهـ.
وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْكَلَامَ مِمَّا يَمْتَدُّ لِأَنَّهُ الشَّرْطُ هُنَا بِخِلَافِ مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ، وَلِمَا كَانَ مَظِنَّةُ أَنْ يَعْتَرِضَ بِأَنَّ الشَّرْطَ وَهُوَ إلَّا أَنْ يَقْدَمَ مُثْبَتٌ فَالْمَفْهُومُ أَنَّ الْقُدُومَ شَرْطُ الطَّلَاقِ لَا عَدَمُهُ. وَجَّهَهُ شَارِحٌ آخَرُ فَقَالَ وَإِنَّمَا حُمِلَ عَلَى إنْ لَمْ يَقْدَمْ فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ لَا عَلَى أَنْ قَدِمَ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْقُدُومَ رَافِعًا لِلطَّلَاقِ فَيَكُونُ الْقُدُومُ عَلَمًا عَلَى الْوُقُوعِ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ مَعْنَى التَّرْكِيبِ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي الْحَالِ مُسْتَمِرٌّ إلَى قُدُومِ فُلَانٍ فَيَرْتَفِعُ فَيَكُونُ قُدُومُهُ عَلَمًا عَلَى الْوُقُوعِ قَبْلَهُ، وَالْمُتَحَقِّقُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ حَالَ قُدُومِ فُلَانٍ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِقَوْلِنَا إنْ لَمْ يَقْدَمْ، فَحَيْثُ لَمْ يُمْكِنْ ارْتِفَاعُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ بِالْقُدُومِ وَأَمْكَنَ وُقُوعُهُ عِنْدَ عَدَمِ الْقُدُومِ اُعْتُبِرَ الْمُمْكِنُ فَجُعِلَ عَدَمُ الْقُدُومِ شَرْطًا وَهُوَ حَاصِلُ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ يَقْدَمْ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إلَّا أَنْ يَمُوتَ فُلَانٌ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ أَوْ يَأْذَنَ لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ كَقَوْلِهِ إنْ لَمْ أُطَلِّقُك فَأَنْتِ طَالِقٌ.
قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: وَمَهْمَا أَمْكَنَ الْمَصِيرُ إلَى هَذَا الْمَجَازِ: يَعْنِي الْغَايَةَ لَا يُصَارُ إلَى ذَلِكَ الْمَجَازِ: يَعْنِي الشَّرْطَ لِأَنَّ فِي هَذَا إجْرَاءُ الْمَجَازِ فِي مُجَرَّدِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَفِي ذَلِكَ إجْرَاؤُهُ فِي اسْتِثْنَاءِ الْقُدُومِ، لِأَنَّا نَجْعَلُ اسْتِثْنَاءَ الْقُدُومِ مَجَازًا عَنْ اشْتِرَاطِ عَدَمِ الْقُدُومِ وَإِجْرَاءِ الْمَجَازِ أَوْلَى مِنْهُ فِي الْمَجْمُوعِ (قَوْلُهُ وَإِنْ مَاتَ فُلَانٌ سَقَطَتْ الْيَمِينُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْمَمْنُوعَ مِنْهُ كَلَامٌ يَنْتَهِي) الْمَنْعُ مِنْهُ (بِالْإِذْنِ وَالْقُدُومِ وَلَمْ يَبْقَ) الْإِذْنُ وَلَا الْقُدُومُ (بَعْدَ مَوْتِ مَنْ إلَيْهِ الْإِذْنُ وَالْقُدُومُ مُتَصَوَّرُ الْوُجُودِ) فَلَمْ يَبْقَ الْبِرُّ مُتَصَوَّرُ الْوُجُودِ، وَبَقَاءُ تَصَوُّرِهِ شَرْطٌ لِبَقَاءِ الْيَمِينِ الْمُؤَقَّتَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَى مَا مَرَّ، وَهَذَا الْيَمِينُ مُؤَقَّتَةٌ بِوَقْتِ الْإِذْنِ وَالْقُدُومِ إذْ بِهِمَا يُتَمَكَّنُ مِنْ الْبِرِّ إذْ يُتَمَكَّنُ مِنْ الْكَلَامِ بِلَا حِنْثٍ فَيَسْقُطُ بِسُقُوطِ تَصَوُّرِ الْبِرِّ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ التَّصَوُّرُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَعِنْدَ سُقُوطِ الْغَايَةِ تَتَأَبَّدُ الْيَمِينُ، فَأَيُّ وَقْتٍ كَلَّمَهُ فِيهِ يَحْنَثُ. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ تَصَوُّرِ الْبِرِّ بِمَوْتِهِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى إعَادَةِ فُلَانٍ فَيُمْكِنُ أَنْ يَقْدَمَ وَيَأْذَنَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute