قَالَ: الْحَدُّ لُغَةً: هُوَ الْمَنْعُ، وَمِنْهُ الْحَدَّادُ لِلْبَوَّابِ. وَفِي الشَّرِيعَةِ: هُوَ الْعُقُوبَةُ الْمُقَدَّرَةُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى حَتَّى لَا يُسَمَّى الْقِصَاصُ حَدًّا لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ وَلَا التَّعْزِيرُ لِعَدَمِ التَّقْدِيرِ. وَالْمَقْصِدُ الْأَصْلِيُّ مِنْ شَرْعِهِ الِانْزِجَارُ عَمَّا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْعِبَادُ، وَالطَّهَارَةُ لَيْسَتْ أَصْلِيَّةً فِيهِ بِدَلِيلِ شَرْعِهِ فِي حَقِّ الْكَافِرِ.
الْمَعْصِيَةِ إذَا حُدَّ بِهَا الْكَافِرُ إلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ عَلَى ذَلِكَ.
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال عَلَى عَدَمِ كَوْنِ الْحَدِّ مُسْقِطًا بِأَنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ وَهُوَ كَارِهٌ لَهُ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِجَوَازِ التَّكْفِيرِ بِمَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِنْ الْمَكَارِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ تَحْقِيقُ الْعِبَارَةِ مَا قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: إنَّهَا مَوَانِعُ قَبْلَ الْفِعْلِ زَوَاجِرُ بَعْدَهُ: أَيْ الْعِلْمُ بِشَرْعِيَّتِهَا يَمْنَعُ الْإِقْدَامَ عَلَى الْفِعْلِ وَإِيقَاعُهَا بَعْدَهُ يَمْنَعُ مِنْ الْعَوْدِ إلَيْهِ
(قَوْلُهُ الْحَدُّ لُغَةً الْمَنْعُ) وَعَلَيْهِ قَوْلُ نَابِغَةَ ذُبْيَانَ:
إلَّا سُلَيْمَانَ إذْ قَالَ الْإِلَهُ لَهُ … قُمْ فِي الْبَرِّيَّةِ فَاحْدُدْهَا عَنْ الْفَنَدِ
وَهُوَ الْخَطَأُ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُلَامُ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْأَعْلَمُ فِي شَرْحِ دِيوَانِهِ، وَكُلُّ مَانِعِ شَيْءٍ فَهُوَ حَادٌّ لَهُ، وَحَدَّادٌ إذَا صِيغَ لِلْمُبَالَغَةِ. وَمِنْهُ قِيلَ لِلْبَوَّابِ لِمَنْعِهِ مِنْ الدُّخُولِ وَالسَّجَّانُ حَدَّادٌ لِمَنْعِهِ مِنْ الْخُرُوجِ بِلَا شَكٍّ، وَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ الَّذِي اسْتَشْهَدَ بِهِ لَا يُفِيدُ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
يَقُولُ لِي الْحَدَّادُ وَهُوَ يَقُودُنِي … إلَى السِّجْنِ لَا تَجْزَعْ فَمَا بِك مِنْ بَاسِ
فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ كَوْنُ الْقَائِلِ الَّذِي كَانَ يَقُودُهُ هُوَ السَّجَّانَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ مِمَّنْ يُوصِلُهُ إلَيْهِ فَإِنَّهُ حَدَّادٌ لَهُ إذْ يَمْنَعُهُ مِنْ الذَّهَابِ إلَى حَالِ سَبِيلِهِ، وَلِلْخَمَّارِ حَدَّادٌ لِمَنْعِهِ الْخَمْرَ فِي قَوْلِ الْأَعْشَى:
فَقُمْنَا وَلَمَّا يَصِحْ دِيكُنَا … إلَى جَوْنَةٍ عِنْدَ حَدَّادِهَا
وَسَمَّى أَهْلُ الِاصْطِلَاحِ الْمُعَرِّفَ لِلْمَاهِيَّةِ حَدًّا لِمَنْعِهِ مِنْ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، وَحُدُودُ الدَّارِ نِهَايَاتُهَا لِمَنْعِهَا عَنْ دُخُولِ مِلْكِ الْغَيْرِ فِيهَا وَخُرُوجِ بَعْضِهَا إلَيْهِ.
وَفِي الشَّرْعِ قَالَ الْمُصَنِّفُ: هُوَ الْعُقُوبَةُ الْمُقَدَّرَةُ حَقًّا لِلَّهِ، فَلَا يُسَمَّى الْقِصَاصُ حَدًّا؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ وَلَا التَّعْزِيرُ لِعَدَمِ التَّقْدِيرِ عَلَى مَا عَلَيْهِ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُقَدَّرَ نَوْعٌ مِنْهُ وَهُوَ التَّعْزِيرُ بِالضَّرْبِ لَكِنَّهُ لَا يَنْحَصِرُ فِي الضَّرْبِ بَلْ يَكُونُ بِغَيْرِهِ مِنْ حَبْسٍ وَعَرْكِ أُذُنٍ وَغَيْرِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا الِاصْطِلَاحُ هُوَ الْمَشْهُورُ.
وَفِي اصْطِلَاحٍ آخَرَ لَا يُؤْخَذُ الْقَيْدُ الْأَخِيرُ فَيُسَمَّى الْقِصَاصُ حَدًّا، فَالْحَدُّ هُوَ الْعُقُوبَةُ الْمُقَدَّرَةُ شَرْعًا غَيْرَ أَنَّ الْحَدَّ عَلَى هَذَا قِسْمَانِ: مَا يَصِحُّ فِيهِ الْعَفْوُ، وَمَا لَا يَقْبَلُهُ. وَعَلَى الْأَوَّلِ الْحَدُّ مُطْلَقًا لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ بَعْدَ ثُبُوتِ سَبَبِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَعَلَيْهِ ابْتَنَى عَدَمُ جَوَازِ الشَّفَاعَةِ فِيهِ فَإِنَّهَا طَلَبُ تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَلِذَا أَنْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ حِينَ شَفَعَ فِي الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالَ «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» وَأَمَّا قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى الْإِمَامِ وَالثُّبُوتِ عِنْدَهُ تَجُوزُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَ الرَّافِعِ لَهُ إلَى الْحَاكِمِ لِيُطْلِقَهُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّام وَقَالَ: إذَا بَلَغَ إلَى الْإِمَامِ فَلَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ إنْ عَفَا، وَهَذَا لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ، فَالْوُجُوبُ لَا يَثْبُتُ