للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: لِأَنَّهُ وَجَبَ الْحَدُّ بِإِقْرَارِهِ فَلَا يَبْطُلُ بِرُجُوعِهِ وَإِنْكَارِهِ كَمَا إذَا وَجَبَ بِالشَّهَادَةِ وَصَارَ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ. وَلَنَا أَنَّ الرُّجُوعَ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ كَالْإِقْرَارِ وَلَيْسَ أَحَدٌ يُكَذِّبُهُ فِيهِ فَتَتَحَقَّقُ الشُّبْهَةُ فِي الْإِقْرَارِ. بِخِلَافِ مَا فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ وَهُوَ الْقِصَاصُ وَحَدُّ الْقَذْفِ لِوُجُودِ مَنْ يُكَذِّبُهُ، وَلَا كَذَلِكَ مَا هُوَ خَالِصُ حَقِّ الشَّرْعِ

(وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُلَقِّنَ الْمُقِرَّ الرُّجُوعَ فَيَقُولَ لَهُ: لَعَلَّك لَمَسْت أَوْ قَبَّلْت) «لِقَوْلِهِ لِمَاعِزٍ لَعَلَّك لَمَسْتهَا أَوْ قَبَّلْتهَا» قَالَ فِي الْأَصْلِ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لَهُ الْإِمَامُ: لَعَلَّك تَزَوَّجْتهَا أَوْ وَطِئْتهَا بِشُبْهَةٍ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ الْأَوَّلِ فِي الْمَعْنَى.

وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُهَا يُحَدُّ، وَكَذَا إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ وَهِيَ غَائِبَةٌ يُحَدُّ اسْتِحْسَانًا «لِحَدِيثِ الْعَسِيفِ أَنَّهُ حَدَّهُ، ثُمَّ أَرْسَلَ إلَى الْمَرْأَةِ فَقَالَ: فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا»، وَلِأَنَّ انْتِظَارَ حُضُورِهَا إنَّمَا هُوَ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَذْكُرَ مُسْقِطًا عَنْهُ وَعَنْهَا، وَلَا يَجُوزُ التَّأْخِيرُ لِهَذَا الِاحْتِمَالِ كَمَا يُؤَخَّرُ إذَا ثَبَتَ بِالشَّهَادَةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَرْجِعَ الشُّهُودُ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ وَبِهِ لَا يَنْدَرِئُ الْحَدُّ، وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ وَكَذَّبَتْهُ وَقَالَتْ لَا أَعْرِفُهُ لَا يُحَدُّ الرَّجُلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا يُحَدُّ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَقَرَّتْ أَنَّهَا زَنَتْ بِفُلَانٍ فَأَنْكَرَ فُلَانٌ تُحَدُّ هِيَ عِنْدَهُمَا لَا عِنْدَهُ

(قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ) وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالْمَسْطُورُ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ قَبْلَ الْحَدِّ أَوْ بَعْدَمَا أُقِيمَ عَلَيْهِ بَعْضُهُ سَقَطَ. وَعَنْ أَحْمَدَ كَقَوْلِنَا. وَعَنْ مَالِكٍ فِي قَبُولِ رُجُوعِهِ رِوَايَتَانِ، فَاسْتَغْنَيْنَا عَنْ تَحْرِيرِ دَلِيلِ الشَّافِعِيِّ. وَعَلَى تَقْدِيرِهِ فَقَوْلُهُ كَمَا إذَا وَجَبَ بِالشَّهَادَةِ تَحْرِيرُ الْجَامِعِ فِيهِ أَنَّهُ إنْكَارٌ بَعْدَ الثُّبُوتِ، كَمَا لَوْ فَرَضَ أَنَّهُمْ شَهِدُوا عَلَيْهِ وَهُوَ سَاكِتٌ، فَلَمَّا سَأَلَهُمْ الْحَاكِمُ الْأَسْئِلَةَ الْخَمْسَةَ وَتَمَّتْ الْحُجَّةُ أَنْكَرَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ تَكَلَّفَ. وَالْحَقُّ أَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِهِ مَحِلٌّ وَصِحَّتُهُ شَرْعًا حُكْمٌ، فَيَجِبُ كَوْنُ الْمَحِلِّ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ رُجُوعًا عَنْ إقْرَارٍ بِغَيْرِهِ وَهُوَ لَيْسَ مُمْتَنِعًا فِي الشَّهَادَةِ. نَعَمْ فِي الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ: يَعْنِي لَوْ أَقَرَّ بِهِمَا ثُمَّ رَجَعَ لَا يُقْبَلُ، فَكَذَا لَا يُقْبَلُ فِي الزِّنَا. وَلَنَا أَنَّ الرُّجُوعَ خَبَرٌ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُكَذِّبُهُ فِيهِ فَتَتَحَقَّقُ بِهِ الشُّبْهَةُ فِي الْإِقْرَارِ السَّابِقِ عَلَيْهِ فَيَنْدَرِئُ بِالشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّهُ أَرْجَحُ مِنْ الْإِقْرَارِ السَّابِقِ فَافْهَمْ بِخِلَافِ مَا فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ مِنْ الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يُكَذِّبُهُ فِي إخْبَارِهِ الثَّانِي فَيَنْعَدِمُ أَثَرُهُ فِي إخْبَارِهِ الْأَوَّلِ بِالْكُلِّيَّةِ

(قَوْلُهُ وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُلَقِّنَ الْمُقِرَّ الرُّجُوعَ) لِقَوْلِهِ لِمَاعِزٍ «لَعَلَّك لَمَسْتهَا» رُوِيَ فِي حَدِيثِ مَاعِزٍ «لَعَلَّك مَسِسْتهَا لَعَلَّك قَبَّلْتهَا» وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ «لَعَلَّك قَبَّلْت أَوْ غَمَزْت أَوْ نَظَرْت» وَقَالَ فِي الْأَصْلِ: يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لَهُ: لَعَلَّك تَزَوَّجْتهَا أَوْ وَطِئْتهَا بِشُبْهَةٍ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ يُلَقِّنَهُ مَا يَكُونُ ذِكْرُهُ دَارِئًا لِلْحَدِّ لِيَذْكُرَهُ كَائِنًا مَا كَانَ كَمَا «قَالَ أَيْضًا لِلسَّارِقِ الَّذِي جِيءَ بِهِ إلَيْهِ أَسَرَقْت وَمَا إخَالُهُ سَرَقَ».

<<  <  ج: ص:  >  >>