وَلِأَنَّ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ أَثَرًا فِي جَمْعِ الْمُتَفَرِّقَاتِ؛ فَعِنْدَهُ يَتَحَقَّقُ شُبْهَةُ الِاتِّحَادِ فِي الْإِقْرَارِ، وَالْإِقْرَارُ قَائِمٌ بِالْمُقِرِّ فَيُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ مَجْلِسِهِ دُونَ مَجْلِسِ الْقَاضِي. وَالِاخْتِلَافُ بِأَنْ يَرُدَّهُ الْقَاضِي كُلَّمَا أَقَرَّ فَيَذْهَبَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ ثُمَّ يَجِيءَ فَيُقِرَّ، هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ ﵊ طَرَدَ مَاعِزًا فِي كُلِّ مَرَّةٍ حَتَّى تَوَارَى بِحِيطَانِ الْمَدِينَةِ.
قَالَ (فَإِذَا تَمَّ إقْرَارُهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ سَأَلَهُ عَنْ الزِّنَا مَا هُوَ وَكَيْفَ هُوَ وَأَيْنَ زَنَى وَبِمَنْ زَنَى، فَإِذَا بَيَّنَ ذَلِكَ لَزِمَهُ الْحَدُّ) لِتَمَامِ الْحُجَّةِ، وَمَعْنَى السُّؤَالِ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بَيَّنَّاهُ فِي الشَّهَادَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ السُّؤَالَ فِيهِ عَنْ الزَّمَانِ، وَذَكَرَهُ فِي الشَّهَادَةِ لِأَنَّ تَقَادُمَ الْعَهْدِ يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ دُونَ الْإِقْرَارِ. وَقِيلَ لَوْ سَأَلَهُ جَازَ لِجَوَازِ أَنَّهُ زَنَى فِي صِبَاهُ
(فَإِنْ رَجَعَ الْمُقِرُّ عَنْ إقْرَارِهِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ أَوْ فِي وَسَطِهِ قُبِلَ رُجُوعُهُ وَخُلِّيَ سَبِيلُهُ)
لِاتِّفَاقِ الْحَالِ بِأَنْ تَثْبُتَ مَعَ ثُبُوتِ حُكْمِ الرَّدِّ مُطْلَقًا سَبَبٌ ظَاهِرٌ فِي خُصُوصِ هَذَا الرَّدِّ، وَلَعَلَّهَا كُلَّمَا رَجَعَتْ إلَيْهِ يَصْدُرُ مِنْهَا مَا هُوَ إقْرَارٌ. إذْ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ فِي مَجْلِسِهَا شَيْءٌ مِمَّا هِيَ بِصَدَدِهِ، هَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا يُفِيدُ أَنَّ إقْرَارَهَا كَانَ أَرْبَعًا، غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَجْلِسُ جَامِعًا لِلْمُتَفَرِّقَاتِ حَتَّى يُعَدَّ الْوَاقِعُ فِيهِ وَاحِدًا وَكَانَ الْمُقَامُ مَقَامَ الِاحْتِيَاطِ فِي الدَّرْءِ اُعْتُبِرَ فِي الْحُكْمِ بِتَعَدُّدِ الْأَقَارِيرِ بِعَدَدِ مَجَالِسِ الْمُقِرِّ دُونَ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ الَّذِي بِهِ يَتَحَقَّقُ الْإِقْرَارُ وَبِهِ فَارِقُ الشَّهَادَةِ. فَإِنَّ الْأَرْبَعَ فِيهَا اُعْتُبِرَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، حَتَّى لَوْ جَاءُوا فِي مَجَالِسَ حُدُّوا؛ لِأَنَّهَا كَلَامُ جَمَاعَةٍ حَقِيقَةً فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا وَاحِدًا، بِخِلَافِ إقْرَارِ الْمُقِرِّ فَإِنَّهُ مِنْ وَاحِدٍ فَأَمْكَنَ فِيهِ اعْتِبَارُ الِاتِّحَادِ فِي اتِّحَادِ الْمَجَالِسِ فَاعْتُبِرَ كَذَلِكَ عِنْدَ الْإِمْكَانِ تَحْقِيقًا لِلِاحْتِيَاطِ.
وَأَمَّا مَا قِيلَ: إنَّ اشْتِرَاطَ الْأَرْبَعِ فِي الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ يُتَّهَمُ بِخِلَافِ الْمُقِرِّ فَالتُّهْمَةُ بَعْدَ الْعَدَالَةِ وَالصَّلَاحِ مَمْنُوعَةٌ بَلْ لَا شَكَّ فِي الصِّدْقِ وَأَصْلِ التَّعَدُّدِ، وَإِنَّمَا لَزِمَ حَتَّى لَزِمَ الِاثْنَانِ لِإِمْكَانِ النِّسْيَانِ فَيَذْكُرُهُ الْآخَرُ لَا لِلتُّهْمَةِ وَزَوَالِهَا بِالْآخَرِ، وَيُشْتَرَطُ فِي النِّسَاءِ كَذَلِكَ أَيْضًا بِالنَّصِّ، قَالَ تَعَالَى ﴿فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى﴾ غَيْرَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إنَّمَا تُخَالِطُ الْمَرْأَةَ لَا الرَّجُلَ الْأَجْنَبِيَّ فَلَزِمَتْ الْأُخْرَى لِتُذَكِّرَهَا (قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ ﵊ طَرَدَ مَاعِزًا فِي كُلِّ مَرَّةٍ حَتَّى تَوَارَى بِحِيطَانِ الْمَدِينَةِ) لَا يُعْرَفُ بِهَذَا اللَّفْظِ.
وَأَقْرَبُ الْأَلْفَاظِ إلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ حِبَّانَ أَنَّهُ طُرِدَ وَأُخْرِجَ فَارْجِعْ إلَيْهِ
(قَوْلُهُ فَإِذَا بَيَّنَ ذَلِكَ) أَيْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَضَمَّنُ دَافِعًا لِلْحَدِّ لَزِمَهُ الْحَدُّ، وَلَمْ يَذْكُرْ السُّؤَالَ فِيهِ عَنْ الزَّمَانِ فَلَا يَقُولُ مَتَى زَنَيْت، وَذَكَرَهُ فِي الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ تَقَادُمَ الْعَهْدِ يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ دُونَ الْإِقْرَارِ، وَهَذَا السُّؤَالُ لِتِلْكَ الْفَائِدَةِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ التَّقَادُمُ مُسْقِطًا لَمْ يَكُنْ فِي السُّؤَالِ عَنْهُ فَائِدَةٌ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالْإِقْرَارِ فِي ذَلِكَ سَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا، وَهَذَا بِخِلَافِ سُؤَالِ بِمَنْ زَنَيْت؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُبَيِّنُ مَنْ لَا يُحَدُّ بِوَطْئِهَا كَمَا ذَكَرْنَا فِي جَارِيَةِ ابْنِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ فِي جَوَابِهِ: لَا أَعْرِفُ الَّتِي زَنَيْت بِهَا فَإِنَّهُ يُحَدُّ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالزِّنَا، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يُسْقِطُ كَوْنَ فِعْلِهِ زِنًا بَلْ تَضَمَّنَ إقْرَارُهُ أَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِي الْمُزَنِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَعَرَفَهَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجْهَلُ زَوْجَتَهُ وَأَمَتَهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute