وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: (وَإِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِسَرِقَةٍ أَوْ بِشُرْبِ خَمْرٍ أَوْ بِزِنًا بَعْدَ حِينٍ لَمْ يُؤْخَذْ بِهِ وَضَمِنَ السَّرِقَةَ)
خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ. وَفِي الْعِبَارَةِ تَسَاهُلٌ مَشْهُورٌ، فَإِنَّ الَّذِي يَبْطُلُ بِالتَّقَادُمِ الشَّهَادَةُ بِأَسْبَابِهَا ثُمَّ لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْإِمَامِ مِنْ الْأَصْلِ لِعَدَمِ الْمُوجِبِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي الشَّهَادَةِ بِالْحُدُودِ الْقَدِيمَةِ وَالْإِقْرَارِ بِهَا أَرْبَعَةَ مَذَاهِبَ:
الْأَوَّلُ رَدُّ الشَّهَادَةِ بِهَا وَقَبُولُ الْإِقْرَارِ بِمَا سِوَى الشُّرْبِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. الثَّانِي رَدُّهَا وَقَبُولُ الْإِقْرَارِ حَتَّى بِالشُّرْبِ الْقَدِيمِ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. الثَّالِثُ قَبُولُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ. الرَّابِعُ رَدُّهُمَا، نُقِلَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِقَلْبِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَاسْتُدِلَّ لِلشَّافِعِيِّ وَالْآخَرَيْنِ بِإِلْحَاقِهِ بِالْإِقْرَارِ لِأَنَّهُمَا حُجَّتَانِ شَرْعِيَّتَانِ يَثْبُتُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا الْحَدُّ، فَكَمَا لَا يَبْطُلُ الْإِقْرَارُ بِالتَّقَادُمِ كَذَا الشَّهَادَةُ وَبِحُقُوقِ الْعِبَادِ. وَلَنَا وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّ الشَّهَادَةَ بَعْدَ التَّقَادُمِ شَهَادَةُ مُتَّهَمٍ وَشَهَادَةُ الْمُتَّهَمِ مَرْدُودَةٌ.
أَمَّا الْكُبْرَى فَلِقَوْلِهِ ﵊ «لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَلَا ظَنِينٍ» أَيْ مُتَّهَمٍ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ عَنْ عُمَرَ ﵁ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ قَالَ " أَيُّمَا شُهُودٍ شَهِدُوا عَلَى حَدٍّ لَمْ يَشْهَدُوا عِنْدَ حَضْرَتِهِ فَإِنَّمَا شَهِدُوا عَلَى ضَغَنٍ فَلَا شَهَادَةَ لَهُمْ ". وَأَمَّا الصُّغْرَى فَلِأَنَّ الشَّاهِدَ بِسَبَبِ الْحَدِّ مَأْمُورٌ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: السَّتْرُ احْتِسَابًا لِقَوْلِهِ ﵊ «مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» مَعَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ الْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ، أَوْ الشَّهَادَةُ بِهِ احْتِسَابًا لِمَقْصِدِ إخْلَاءِ الْعَالَمِ عَنْ الْفَسَادِ لِلِانْزِجَارِ بِالْحَدِّ، فَأَحَدُ الْأَمْرَيْنِ وَاجِبٌ مُخَيَّرٌ عَلَى الْفَوْرِ كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ السَّتْرِ وَإِخْلَاءِ الْعَالَمِ عَنْ الْفَسَادِ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ طَلَبُهُ عَلَى التَّرَاخِي، فَإِذَا شَهِدَ بَعْدَ التَّقَادُمِ لَزِمَهُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: إمَّا الْفِسْقُ، وَإِمَّا تُهْمَةُ الْعَدَاوَةِ لِأَنَّهُ إنْ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْأَصْلِ اخْتَارَ الْأَدَاءَ وَعَدَمَ السَّتْرِ ثُمَّ أَخَّرَهُ لَزِمَ الْأَوَّلُ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ اخْتَارَ السَّتْرَ ثُمَّ شَهِدَ لَزِمَ الثَّانِي، وَذَلِكَ أَنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ الْوَاجِبُ بِاخْتِيَارِ أَحَدِهِمَا، فَانْصِرَافُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الشَّهَادَةِ مَوْضِعُ ظَنِّ أَنَّهُ حَرَّكَهُ حُدُوثُ عَدَاوَةٍ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الْفِسْقِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَلَا التُّهْمَةِ، إذْ الْإِنْسَانُ لَا يُعَادِي نَفْسَهُ فَلَا يَبْطُلُ بِالتَّقَادُمِ إذْ لَمْ يُوجِبْ تَحَقُّقَ تُهْمَةٍ، وَبِخِلَافِ حُقُوقِ الْعِبَادِ لِأَنَّ الدَّعْوَى شَرْطٌ فِيهَا فَتَأْخِيرُ الشَّاهِدِ لِتَأْخِيرِ الدَّعْوَى لَا يَلْزَمُ مِنْهُ فِسْقٌ وَلَا تُهْمَةٌ، وَفِي الْقَذْفِ حَقُّ الْعَبْدِ فَتَوَقَّفَ عَلَى الدَّعْوَى كَغَيْرِهِ فَلَمْ يَبْطُلْ بِالتَّقَادُمِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ اشْتِرَاطُ الدَّعْوَى مَانِعًا مِنْ الرَّدِّ بِالتَّقَادُمِ لَزِمَ فِي السَّرِقَةِ أَنْ لَا تُرَدَّ الشَّهَادَةُ بِهَا عِنْدَ التَّقَادُمِ لِاشْتِرَاطِ الدَّعْوَى فِيهَا لَكِنَّهَا تُرَدُّ. أَجَابَ أَوَّلًا بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ السَّرِقَةَ فِيهَا أَمْرَانِ الْحَدُّ وَالْمَالُ، فَمَا يَرْجِعُ إلَى الْحَدِّ لَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الدَّعْوَى لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَبِاعْتِبَارِ الْمَالِ تُشْتَرَطُ، وَالشَّهَادَةُ بِالسَّرِقَةِ لَا تَخْلُصُ لِأَحَدِهِمَا بَلْ لَا تَنْفَكُّ عَنْ الْأَمْرَيْنِ، فَاشْتُرِطَتْ الدَّعْوَى لِلُزُومِ الْمَالِ لَا لِلُزُومِ الْحَدِّ، وَلِذَا يَثْبُتُ الْمَالُ بِهَا بَعْدَ التَّقَادُمِ لِأَنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِهِ وَلَا نَقْطَعُهُ لِأَنَّ الْحَدَّ يَبْطُلُ بِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِ الْأَمْرَيْنِ فِيهَا أَنَّهُ إذَا شَهِدُوا بِهَا عَلَى إنْسَانٍ وَالْمُدَّعِي غَائِبٌ وَهُوَ صَاحِبُ الْمَالِ يُحْبَسُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُدَّعِي لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي الْقَذْفِ لَا يُحْبَسُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِهِ حَتَّى يَحْضُرَ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ الْخَالِصَةِ، وَإِنَّمَا لَا يُقْطَعُ قَبْلَ حُضُورِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ سَرَقَ مِلْكَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ أَوْ مَلَّكَهُ إيَّاهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَضَمُّنِ الشَّهَادَةِ بِالسَّرِقَةِ الشَّهَادَةَ بِمِلْكِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَالشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ لِإِنْسَانٍ يَتَوَقَّفُ قَبُولُهَا عَلَى حُضُورِ الْمَشْهُودِ لَهُ بِالْمِلْكِ وَدَعْوَاهُ، فَإِذَا أُخِّرَ رَدَدْنَاهُ فِي حَقِّ الْحَدِّ لَا الْمَالِ بَلْ أَلْزَمْنَاهُ الْمَالَ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: زَنَيْت بِفُلَانَةَ أَوْ قَلَبَهُ وَهِيَ غَائِبَةٌ لَا يَدْرِي جَوَابَهَا يُحَدُّ، وَلَا يُسْتَأْنَى بِالْحَدِّ لِأَنَّ الثَّابِتَ هُنَاكَ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ وَلَا تُعْتَبَرُ، وَفِي السَّرِقَةِ لَا تَثْبُتُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute