وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْحُدُودَ الْخَالِصَةَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى تَبْطُلُ بِالتَّقَادُمِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ﵀، هُوَ يَعْتَبِرُهَا بِحُقُوقِ الْعِبَادِ وَبِالْإِقْرَارِ الَّذِي هُوَ إحْدَى الْحُجَّتَيْنِ. وَلَنَا أَنَّ الشَّاهِدَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ حِسْبَتَيْنِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَالسَّتْرِ، فَالتَّأْخِيرُ إنْ كَانَ لِاخْتِيَارِ السَّتْرِ فَالْإِقْدَامُ عَلَى الْأَدَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ لِضَغِينَةٍ هَيَّجَتْهُ أَوْ لِعَدَاوَةٍ حَرَّكَتْهُ فَيُتَّهَمُ فِيهَا وَإِنْ كَانَ التَّأْخِيرُ لَا لِلسَّتْرِ يَصِيرُ فَاسِقًا آثِمًا فَتَيَقَّنَّا بِالْمَانِعِ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُعَادِي نَفْسَهُ، فَحَدُّ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَصِحَّ الرُّجُوعُ عَنْهَا بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَيَكُونَ التَّقَادُمُ فِيهِ مَانِعًا، وَحَدُّ الْقَذْفِ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ الْعَارِ عَنْهُ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ، وَالتَّقَادُمُ غَيْرُ مَانِعٍ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَلِأَنَّ الدَّعْوَى فِيهِ شَرْطٌ فَيُحْمَلُ تَأْخِيرُهُمْ عَلَى انْعِدَامِ الدَّعْوَى فَلَا يُوجِبُ تَفْسِيقَهُمْ، بِخِلَافِ حَدِّ السَّرِقَةِ لِأَنَّ الدَّعْوَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ
أَصْلًا إلَّا بِثُبُوتِ الْمَالِ، وَلَا يَثْبُتُ الْمَالُ بِالشَّهَادَةِ إلَّا بِالدَّعْوَى، وَإِنَّمَا يُحْبَسُ لِلتُّهْمَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلِأَنَّ الثَّابِتَ فِي غَيْبَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ الشُّبْهَةُ لِأَنَّ الثَّابِتَ احْتِمَالُ أَنْ يَقُولَ هُوَ مِلْكُهُ، وَقَوْلُهُ هُوَ مِلْكُهُ لَيْسَ شُبْهَةً بَلْ حَقِيقَةُ الْمُبَرِّئِ، بِخِلَافِ دَعْوَاهَا النِّكَاحَ مَثَلًا لَوْ حَضَرَتْ لِأَنَّهُ نَفْسُ الشُّبْهَةِ فَاحْتِمَالُهُ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَجَابَ ثَانِيًا بِأَنَّ بُطْلَانَ الشَّهَادَةِ بِالتَّقَادُمِ لَمَّا كَانَ لِلتُّهْمَةِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَأُقِيمَ التَّقَادُمُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ مَقَامَهَا فَلَا يُنْظَرُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى وُجُودِ التُّهْمَةِ وَعَدَمِهَا، كَالرُّخْصَةِ لَمَّا كَانَتْ لِلْمَشَقَّةِ وَهِيَ غَيْرُ مُنْضَبِطَةٍ أُدِيرَ عَلَى السَّفَرِ فَلَمْ يُلَاحَظْ بَعْدَ ذَلِكَ وُجُودُهَا وَلَا عَدَمُهَا فَتُرَدُّ بِالتَّقَادُمِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ بِالتَّقَادُمِ لَيْسَ إلَّا لِلتُّهْمَةِ، وَمَحَلُّ التُّهْمَةِ ظَاهِرٌ يُدْرِكُهُ كُلُّ أَحَدٍ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى إنَاطَتِهِ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَصِحُّ تَشْبِيهُهُ بِالْمَشَقَّةِ مَعَ السَّفَرِ لِأَنَّ الْمَشَقَّةَ أَمْرٌ خَفِيٌّ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ فَلَا تُمْكِنُ الْإِنَاطَةُ بِهِ فَنِيطَ بِمَا هُوَ مُنْضَبِطٌ، فَالْعُدُولُ لِلْحَاجَةِ لِلِانْضِبَاطِ وَلَا حَاجَةَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ. فَإِنْ قُلْت: فَظَاهِرُ انْتِفَاءِ التُّهْمَةِ مَعَ رَدِّ الشَّهَادَةِ فِي حَقِّ الْحَدِّ فِيمَا لَوْ عَلِمَ الْمُدَّعِي بِالسَّرِقَةِ فَلَمْ يَدَّعِ إلَّا بَعْدَ حِينٍ فَشَهِدُوا فَإِنَّهُ لَا تُهْمَةَ بِتَأْخِيرِهِمْ، وَمَعَ هَذَا لَا يُقْطَعُ بَلْ يَضْمَنُ الْمَالَ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ مَا كَانَ فِيهِ تُهْمَةٌ فَالرَّدُّ يُضَافُ إلَيْهَا، وَمَا لَمْ يَكُنْ فَإِلَى الْمُدَّعِي عَلَى مَا قَالَ قَاضِي خَانَ إنَّمَا لَا تُقْبَلُ فِي السَّرِقَةِ بَعْدَ التَّقَادُمِ لَا لِتُهْمَةٍ فِي الشُّهُودِ لِأَنَّ الدَّعْوَى شَرْطُ الْقَبُولِ بَلْ لِخَلَلٍ فِي الدَّعْوَى، فَإِنَّ صَاحِبَ الْمَالِ كَانَ مُخْبِرًا فِي الِابْتِدَاءِ، فَإِذَا أُخِّرَ فَقَدْ اخْتَارَ السَّتْرَ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ حَقُّ دَعْوَى السَّرِقَةِ وَالْحَدُّ بَلْ بَقِيَ لَهُ حَقُّ دَعْوَى الْمَالِ فَقَطْ فَيُقْضَى بِالْمَالِ دُونَ الْقَطْعِ؛ كَمَا لَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَلَى السَّرِقَةِ يُقْضَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute