غَيْرَ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالزَّمَانِ عِنْدَهُ اعْتِبَارًا بِحَدِّ الزِّنَا، وَهَذَا لِأَنَّ التَّأْخِيرَ يَتَحَقَّقُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ وَالرَّائِحَةُ قَدْ تَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا قِيلَ:
يَقُولُونَ لِي انْكَهْ شَرِبْت مُدَامَةً … فَقُلْت لَهُمْ لَا بَلْ أَكَلْت السَّفَرْجَلَا
وَعِنْدَهُمَا يُقَدَّرُ بِزَوَالِ الرَّائِحَةِ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: فَإِنْ وَجَدْتُمْ رَائِحَةَ الْخَمْرِ فَاجْلِدُوهُ.
غَيْرَ أَنَّهُ) أَيْ هَذَا التَّقَادُمُ (مُقَدَّرٌ بِالزَّمَانِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ اعْتِبَارًا بِحَدِّ الزِّنَا) أَنَّهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ أَوْ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي أَوْ بِشَهْرٍ وَهُوَ الْمُخْتَارُ (وَهَذَا لِأَنَّ التَّأْخِيرَ يَتَحَقَّقُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ) بِلَا شَكٍّ (بِخِلَافِ الرَّائِحَةِ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا قِيلَ:
يَقُولُونَ لِي انْكَهْ شَرِبْتَ مُدَامَةً … فَقُلْت لَهُمْ لَا بَلْ أَكَلْت السَّفَرْجَلَا)
وَانْكِهِ بِوَزْنِ امْنَعْ، وَنَكِهَ مِنْ بَابِهِ؛ أَيْ أَظْهَرَ رَائِحَةَ فَمِهِ.
وَقَالَ الْآخَرُ:
سَفَرْجَلَةٌ تَحْكِي ثَدْيَ النَّوَاهِدِ … لَهَا عَرْفٌ ذِي فِسْقٍ وَصُفْرَةِ زَاهِدِ
فَظَهَرَ أَنَّ رَائِحَةَ الْخَمْرِ مِمَّا تَلْتَبِسُ بِغَيْرِهَا فَلَا يُنَاطُ شَيْءٌ مِنْ الْأَحْكَامِ بِوُجُودِهَا وَلَا بِذَهَابِهَا، وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهَا لَا تَلْتَبِسُ عَلَى ذَوِي الْمَعْرِفَةِ فَلَا مُوجِبَ لِتَقْيِيدِ الْعَمَلِ بِالْبَيِّنَةِ بِوُجُودِهَا، لِأَنَّ الْمَعْقُولَ تَقَيُّدُ قَبُولِهَا بِعَدَمِ التُّهْمَةِ وَالتُّهْمَةُ لَا تَتَحَقَّقُ فِي الشَّهَادَةِ بِسَبَبِ وُقُوعِهَا بَعْدَ ذَهَابِ الرَّائِحَةِ بَلْ بِسَبَبِ تَأْخِيرِ الْأَدَاءِ تَأْخِيرًا يُعَدُّ تَفْرِيطًا، وَذَلِكَ مُنْتَفٍ فِي تَأْخِيرِ يَوْمٍ وَنَحْوِهِ وَبِهِ تَذْهَبُ الرَّائِحَةُ. أَجَابَ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ اشْتِرَاطَ قِيَامِ الرَّائِحَةِ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ عُرِفَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ مَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ الْجَابِرُ عَنْ أَبِي مَاجِدٍ الْحَنَفِيِّ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ بِابْنِ أَخٍ لَهُ سَكْرَانَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: تَرْتِرُوهُ وَمَزْمِزُوهُ وَاسْتَنْكِهُوهُ، فَفَعَلُوا فَرَفَعَهُ إلَى السِّجْنِ، ثُمَّ عَادَ بِهِ مِنْ الْغَدِ وَدَعَا بِسَوْطٍ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَدُقَّتْ ثَمَرَتُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ حَتَّى صَارَتْ دِرَّةً، ثُمَّ قَالَ لِلْجَلَّادِ: اجْلِدْ وَأَرْجِعْ يَدَك وَأَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجَابِرِ بِهِ. وَدُفِعَ بِأَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ كَوْنُ الشَّهَادَةِ لَا يُعْمَلُ بِهَا إلَّا مَعَ قِيَامِ الرَّائِحَةِ. وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ لَيْسَ فِيهِ شَهَادَةٌ مُنِعَ مِنْ الْعَمَلِ بِهَا لِعَدَمِ الرَّائِحَةِ وَقْتَ أَدَائِهَا بَلْ وَلَا إقْرَارٌ، إنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ حَدَّهُ بِظُهُورِ الرَّائِحَةِ بِالتَّرْتَرَةِ وَالْمَزْمَزَةِ. وَالْمَزْمَزَةُ التَّحْرِيكُ بِعُنْفٍ وَالتَّرْتَرَةُ وَالتَّلْتَلَةُ التَّحْرِيكُ، وَهُمَا بِتَاءَيْنِ مُثَنَّاتَيْنِ مِنْ فَوْقُ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ يَصِفُ بَعِيرًا:
بَعِيدُ مَسَافِ الْخَطْوِ غَوْجٌ شَمَرْدَلُ … تُقَطِّعُ أَنْفَاسَ الْمَهَارَى تَلَاتِلُهُ
أَيْ حَرَكَاتُهُ. وَالْمَسَافُ جَمْعُ مَسَافَةٍ وَالْغَوْجُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ الْوَاسِعُ الصَّدْرِ.
وَمَعْنَى تَقْطِيعِ تَلَاتِلِهِ أَنْفَاسَ الْمَهَارَى: أَنَّهُ إذَا بَارَاهَا فِي السَّيْرِ أَظْهَرَ فِي أَنْفَاسِهَا الضِّيقَ وَالتَّتَابُعَ لِمَا يُجْهِدُهَا، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ لِأَنَّ بِالتَّحْرِيكِ تَظْهَرُ الرَّائِحَةُ مِنْ