للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلِأَنَّ قِيَامَ الْأَثَرِ مِنْ أَقْوَى دَلَالَةٍ عَلَى الْقُرْبِ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى التَّقْدِيرِ بِالزَّمَانِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِهِ، وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الرَّوَائِحِ مُمْكِنٌ لِلْمُسْتَدِلِّ، وَإِنَّمَا تَشْتَبِهُ عَلَى الْجُهَّالِ. وَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَالتَّقَادُمُ لَا يُبْطِلُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا عَلَى مَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ. وَعِنْدَهُمَا لَا يُقَامُ الْحَدُّ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ الرَّائِحَةِ، لِأَنَّ حَدَّ الشُّرْبِ ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَلَا إجْمَاعَ إلَّا بِرَأْيِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَدْ شَرَطَ قِيَامَ الرَّائِحَةِ عَلَى مَا رَوَيْنَا.

الْمَعِدَةِ الَّتِي كَانَتْ خَفِيَتْ وَكَانَ ذَلِكَ مَذْهَبَهُ

وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ سُورَةَ يُوسُفَ فَقَالَ رَجُلٌ: مَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَاَللَّهِ لَقَدْ قَرَأْتُهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ أَحْسَنْت، فَبَيْنَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إذْ وَجَدَ مِنْهُ رَائِحَةَ الْخَمْرِ، فَقَالَ: أَتَشْرَبُ الْخَمْرَ وَتُكَذِّبُ بِالْكِتَابِ، فَضَرَبَهُ الْحَدَّ».

وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ ضَرَبَ رَجُلًا وَجَدَ مِنْهُ رِيحَ الْخَمْرِ، وَفِي لَفْظٍ رِيحَ شَرَابٍ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ حَدَّهُ عِنْدَ وُجُودِ الرِّيحِ مَعَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ لَا يَسْتَلْزِمُ اشْتِرَاطَ الرَّائِحَةِ مَعَ أَحَدِهِمَا، ثُمَّ هُوَ مَذْهَبٌ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَالْأَصَحُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ نَفْيُهُ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ عُمَرَ يُعَارِضُ مَا ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ عَزَّرَ مَنْ وَجَدَ مِنْهُ الرَّائِحَةَ، وَيَتَرَجَّحُ لِأَنَّهُ أَصَحُّ، وَإِنْ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ جَلَدَ مَنْ وَجَدَ مِنْهُ رِيحَ الْخَمْرِ حَدًّا تَامًّا، وَقَدْ اسْتَبْعَدَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْحُدُودِ إذَا جَاءَ صَاحِبُهَا مُقِرًّا أَنْ يُرَدَّ أَوْ يُدْرَأَ مَا اُسْتُطِيعَ فَكَيْفَ يَأْمُرُ ابْنُ مَسْعُودٍ بِالْمَزْمَزَةِ عِنْدَ عَدَمِ الرَّائِحَةِ لِيَظْهَرَ الرِّيحُ فَيَحُدّهُ، فَإِنْ صَحَّ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا مُولَعًا بِالشَّرَابِ مُدْمِنًا عَلَيْهِ فَاسْتَجَازَ ذَلِكَ فِيهِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ (وَلِأَنَّ قِيَامَ الرَّائِحَةِ مِنْ أَقْوَى دَلَالَةٍ عَلَى الْقُرْبِ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى التَّقْدِيرِ بِالزَّمَانِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْقُرْبِ) ثُمَّ أَجَابَ عَمَّا يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنَّ الرَّائِحَةَ مُشْتَبِهَةٌ بِقَوْلِهِ (وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الرَّوَائِحِ مُمْكِنٌ لِلْمُسْتَدِلِّ. وَإِنَّمَا تُشْتَبَهُ عَلَى الْجُهَّالِ) فَلَيْسَ بِمُفِيدٍ لِأَنَّ كَوْنَهَا دَلِيلًا عَلَى الْقُرْبِ لَا يَسْتَلْزِمُ انْحِصَارَ الْقُرْبِ فِيهَا لِيَلْزَمَ مِنْ انْتِفَائِهَا ثُبُوتُ الْبُعْدِ وَالتَّقَادُمِ، لِأَنَّ الْقُرْبَ يَتَحَقَّقُ بِصُوَرٍ كَثِيرَةٍ لَا بِصُورَةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ عِنْدَ قِيَامِ الرَّائِحَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ عَيْنُ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَهُوَ الْمَانِعُ، فَقَوْلُهُ بَعْدَهُ وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى التَّقْدِيرِ بِالزَّمَانِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِهِ إنْ أَرَادَ أَنَّ اعْتِبَارَ الْقُرْبِ بِالرَّائِحَةِ فَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ فَقَوْلُ مُحَمَّدٍ هُوَ الصَّحِيحُ.

(قَوْلُهُ وَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَالتَّقَادُمُ لَا يُبْطِلُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا) لَا يَبْطُلُ الْإِقْرَارُ بِالتَّقَادُمِ اتِّفَاقًا (عَلَى مَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ) مِنْ أَنَّ الْبُطْلَانَ لِلتُّهْمَةِ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَتَّهِمُ عَلَى نَفْسِهِ (وَعِنْدَهُمَا لَا يُقَامُ الْحَدُّ) عَلَى الْمُقِرِّ بِالشُّرْبِ (إلَّا) إذَا أَقَرَّ (عِنْدَ قِيَامِ الرَّائِحَةِ لِأَنَّ حَدَّ الشُّرْبِ ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ) (وَلَا إجْمَاعَ إلَّا بِرَأْيِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَدْ شَرَطَ قِيَامَ الرَّائِحَةِ عَلَى مَا رَوَيْنَا) بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِالْحَدِّ إلَّا إذَا كَانَ مَعَ الرَّائِحَةِ فَيَبْقَى

<<  <  ج: ص:  >  >>