للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَشَرِبَهُ طَوْعًا) لِأَنَّ السُّكْرَ مِنْ الْمُبَاحِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ كَالْبَنْجِ وَلَبَنِ الرِّمَاكِ، وَكَذَا شُرْبُ الْمُكْرَهِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ (وَلَا يُحَدُّ حَتَّى يَزُولَ عَنْهُ السُّكْرُ) تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الِانْزِجَارِ.

الْحَدُّ وَجَبَ بِلَا مُوجِبٍ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ مِنْ قَرِيبٍ، وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الرَّوَائِحِ مُمْكِنٌ لِلْمُسْتَدِلِّ فَقُطِعَ الِاحْتِمَالُ وَهُنَا عَكْسٌ.

قَالَ الْمُوَرِّدُ: وَتَكَلَّفَ بَعْضُهُمْ فِي تَوْجِيهِهِ، يُرِيدُ بِهِ صَاحِبَ النِّهَايَةِ بِأَنَّ الِاحْتِمَالَ فِي نَفْسِ الرَّوَائِحِ قَبْلَ الِاسْتِدْلَالِ وَالتَّمْيِيزِ بَعْدَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِقْصَاءِ. قَالَ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إذَا كَانَ التَّمْيِيزُ يَحْصُلُ بِالِاسْتِدْلَالِ فَإِذَا اسْتَدَلَّ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَرْتَفِعُ الِاحْتِمَالُ فِي الرَّائِحَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَدَّ حِينَئِذٍ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، وَنُقِلَ أَيْضًا عَنْهُ أَنَّ التَّمْيِيزَ لِمَنْ يُعَايِنُهُ، وَنُظِرَ فِيهِ بِأَنَّ مَنْ عَايَنَ الشُّرْبَ يَبْنِي عَلَى يَقِينٍ لَا عَلَى اسْتِدْلَالٍ وَتَخْمِينٍ، وَصَاحِبُ الْهِدَايَةِ أَثْبَتَ التَّمْيِيزَ فِي صُورَةِ الِاسْتِدْلَالِ لَا فِي صُورَةِ الْعِيَانِ اهـ.

فَبَقِيَ الْإِشْكَالُ بِحَالِهِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ مُعَايَنَةُ الشُّرْبِ وَالِاسْتِدْلَالُ لَا يُنَافِيهِ لِأَنَّ الْمَشْرُوبَ جَازَ كَوْنُهُ غَيْرَ الْخَمْرِ فَيُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّهُ خَمْرٌ بِالرَّائِحَةِ فَكَوْنُ الْمُصَنِّفِ جَعَلَ التَّمْيِيزَ يُفِيدُهُ الِاسْتِدْلَال لَا يُنَافِي حَالَةَ الْعِيَانِ، أَيْ عِيَانِ الشُّرْبِ، ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ مُحْتَمَلًا لَا يُنَافِي أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَرَائِنَ بِحَيْثُ يُحْكَمُ بِهِ مَعَ شُبْهَةٍ مَا، فَلَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ الِاحْتِمَالِ وَعَدَمِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ، بَلْ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ الِاسْتِدْلَال مَعَ ثُبُوتِ ضَرْبٍ مِنْ الِاحْتِمَالِ فَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُ أَنَّهُ قَطَعَ الِاحْتِمَالَ حَيْثُ ذَكَرَ أَنَّهُ يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بِالِاسْتِدْلَالِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَنْظُورَ إلَيْهِ وَالْمَقْصُودَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ثُبُوتُ طَرِيقِ الدَّرْءِ، أَمَّا الْمَوْضِعُ الثَّانِي وَهُوَ عَدَمُ الْحَدِّ بِوُجُودِ الرَّائِحَةِ وَالتَّقَيُّؤِ فَظَاهِرٌ، وَطَرِيقُهُ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْحَدُّ لَكَانَ مَعَ شُبْهَةِ عَدَمِهِ لِأَنَّ الرَّائِحَةَ مُحْتَمَلَةٌ وَإِنْ اسْتَدَلَّ عَلَيْهَا فَإِنَّ فِيهَا مَعَ الدَّلِيلِ شُبْهَةً قَوِيَّةً فَلَا يَثْبُتُ الْحَدُّ مَعَهَا، وَأَمَّا فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ فَلَا شَكَّ أَنَّ فِي إثْبَاتِ اشْتِرَاطِ عَدَمِ التَّقَادُمِ لِقَبُولِ الْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ دَرْءًا كَثِيرًا وَاسِعًا، وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ هَذَا الطَّرِيقِ الْكَائِنِ لِلدَّرْءِ إلَّا بِاعْتِبَارِ إمْكَانِ تَمْيِيزِ رَائِحَةِ الْخَمْرِ مِنْ غَيْرِهَا، فَحَكَمَ بِاعْتِبَارِ التَّمْيِيزِ بِالِاجْتِهَادِ فِي الِاسْتِدْلَالِ وَإِنْ كَانَ مَلْزُومًا لِشُبْهَةِ النَّفْيِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ تَحْصِيلِ هَذَا الطَّرِيقِ الْوَاسِعِ لِلدَّرْءِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ التَّمْيِيزُ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ شُبْهَةٍ لَكَانَ الشَّهَادَةُ وَالْإِقْرَارُ مَعْمُولًا بِهِمَا فِي أَزْمِنَةٍ كَثِيرَةٍ مُتَأَخِّرَةٍ بِلَا رَائِحَةٍ فَيُقَامُ بِذَلِكَ مَا لَا يُحْصَى مِنْ الْحُدُودِ.

وَحِينَ اشْتَرَطَ ذَلِكَ وَضَحَتْ طَرِيقُهُ مَعَ الشُّبْهَةِ وَالِاحْتِمَالِ، فَظَهَرَ أَنَّ كُلًّا صَحِيحٌ فِي مَوْضِعِهِ فَدَرْءُ الْحَدِّ فِي مُجَرَّدِ الرَّائِحَةِ وَالْقَيْءِ لِلِاحْتِمَالِ وَرَدَتْ الشَّهَادَةُ بِلَا رَائِحَةٍ، إذْ لَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ إلَّا مَعَ الِاحْتِمَالِ (قَوْلُهُ وَلَا يُحَدُّ) السَّكْرَانُ (حَتَّى يَزُولَ عَنْهُ السُّكْرُ تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الِانْزِجَارِ) وَهَذَا بِإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، لِأَنَّ غَيْبُوبَةَ الْعَقْلِ وَغَلَبَةَ الطَّرَبِ وَالشَّرْحِ يُخَفِّفُ الْأَلَمَ، حَتَّى حُكِيَ لِي أَنَّ بَعْضَ الْمُتَصَابِينَ اسْتَدْعَوْا إنْسَانًا لِيَضْحَكُوا عَلَيْهِ بِهِ أَخْلَاطٌ ثَقِيلَةٌ لَزِجَةٌ بِرُكْبَتَيْهِ لَا يُقِلُّهُمَا إلَّا بِكُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ، فَلَمَّا غَلَبَ عَلَى عَقْلِهِ ادَّعَى الْقُوَّةَ وَالْإِقْدَامَ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ مُمَازِحًا لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَإِلَّا فَضَعْ هَذِهِ الْجَمْرَةَ عَلَى رُكْبَتِك، فَأَقْدَمَ وَوَضَعَهَا حَتَّى أَكَلَتْ مَا هُنَاكَ

<<  <  ج: ص:  >  >>