للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(وَحَدُّ الْخَمْرِ وَالسُّكْرِ فِي الْحُرِّ ثَمَانُونَ سَوْطًا) لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ

مِنْ لَحْمِهِ وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ حَتَّى طَفِئَتْ أَوْ أَزَالَهَا بَعْضُ الْحَاضِرِينَ الشَّكُّ مِنِّي فَلَمَّا أَفَاقَ وَجَدَ مَا بِهِ مِنْ جِرَاحَةِ النَّارِ الْبَالِغَةِ وَوَرِمَتْ رُكْبَتُهُ وَمَكَثَ بِهَا مُدَّةً إلَى أَنْ بَرَأَتْ، فَعَادَتْ بِذَلِكَ الْكَيِّ الْبَالِغِ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَالنَّظَافَةِ مِنْ الْأَخْلَاطِ وَصَارَ يَقُولُ: يَا لَيْتَهَا كَانَتْ فِي الرُّكْبَتَيْنِ، ثُمَّ لَمْ يَسْتَطِعْ أَصْلًا فِي حَالِ صَحْوِهِ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ بِالْأُخْرَى لِيَسْتَرِيحَ مِنْ أَلَمِهَا وَمَنْظَرِهَا.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُفِيدُ الْحَدُّ فَائِدَتَهُ إلَّا حَالَ الصَّحْوِ وَتَأْخِيرُ الْحَدِّ لِعُذْرٍ جَائِزٌ

(قَوْلُهُ وَحَدُّ الْخَمْرِ وَالسُّكْرِ) أَيْ مِنْ غَيْرِهَا (ثَمَانُونَ سَوْطًا) وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: أَرْبَعُونَ إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ رَأَى أَنْ يَجْلِدَهُ ثَمَانِينَ جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى تَعَيُّنِ الثَّمَانِينَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ.

رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: «كُنَّا نُؤْتَى بِالشَّارِبِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ وَإِمْرَةِ أَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ فَنَقُومُ إلَيْهِ بِأَيْدِينَا وَنِعَالِنَا وَأَرْدِيَتِنَا حَتَّى كَانَ آخِرُ إمْرَةِ عُمَرَ، فَجَلَدَ أَرْبَعِينَ، حَتَّى إذَا عَتَوْا أَوْ فَسَقُوا جَلَدَ ثَمَانِينَ». وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ النَّبِيَّ جَلَدَ فِي الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ ثُمَّ جَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ وَدَنَا النَّاسُ مِنْ الرِّيفِ وَالْقُرَى قَالَ: مَا تَرَوْنَ فِي جَلْدِ الْخَمْرِ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَرَى أَنْ نَجْعَلَهُ ثَمَانِينَ كَأَخَفِّ الْحُدُودِ، قَالَ: فَجَلَدَ عُمَرُ ثَمَانِينَ».

وَفِي الْمُوَطَّأِ أَنَّ عُمَرَ اسْتَشَارَ فِي الْخَمْرِ يَشْرَبُهَا الرَّجُلُ. فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : نَرَى أَنْ تَجْلِدَهُ ثَمَانِينَ، فَإِنَّهُ إذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، وَعَلَى الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ.

وَعَنْ مَالِكٍ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَلَا مَانِعَ مِنْ كَوْنِ كُلٍّ مِنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَشَارَ بِذَلِكَ فَرَوَى الْحَدِيثَ مَرَّةً مُقْتَصِرًا عَلَى هَذَا وَمَرَّةً عَلَى هَذَا.

وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ الشَّرْبَ كَانُوا يُضْرَبُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ بِالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ وَالْعِصِيِّ حَتَّى تُوُفِّيَ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَجْلِدُهُمْ أَرْبَعِينَ حَتَّى تُوُفِّيَ إلَى أَنْ قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ مَاذَا تَرَوْنَ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ : إذَا شَرِبَ» إلَخْ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ «أُتِيَ النَّبِيُّ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَضَرَبَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ الْأَرْبَعِينَ، وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ» فَيُمْكِنُ بِجَرِيدَتَيْنِ مُتَعَاقِبَتَيْنِ بِأَنْ انْكَسَرَتْ وَاحِدَةٌ فَأُخِذَتْ أُخْرَى وَإِلَّا فَهِيَ ثَمَانُونَ، وَيَكُونُ مِمَّا رَأَى فِي ذَلِكَ الرَّجُلِ. وَقَوْلُ الرَّاوِي بَعْدَ ذَلِكَ: فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ إلَخْ لَا يُنَافِي ذَلِكَ، فَإِنَّ حَاصِلَهُ أَنَّهُ اسْتَشَارَهُمْ فَوَقَعَ اخْتِيَارُهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ الثَّمَانِينَ الَّتِي انْتَهَى إلَيْهَا فِعْلُ رَسُولِ اللَّهِ ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ يُبْعِدُهُ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَلَدَ ثَمَانِينَ، وَمَا تَقَدَّمَ مِمَّا يُفِيدُ أَنَّ عُمَرَ هُوَ الَّذِي جَلَدَ الثَّمَانِينَ، بِخِلَافِ أَبِي بَكْرٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: مَا كُنْتُ أُقِيمُ عَلَى أَحَدٍ حَدًّا فَيَمُوتُ فِيهِ فَأَجِدُ مِنْهُ فِي نَفْسِي إلَّا صَاحِبَ الْخَمْرِ، فَإِنَّهُ إنْ مَاتَ وَدْيَتُهُ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يَسُنَّهُ، وَالْمُرَادُ لَمْ يَسُنَّ فِيهِ عَدَدًا مُعَيَّنًا، وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّهُ أَمَرَ بِضَرْبِهِ.

فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تُفِيدُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُقَدَّرًا فِي زَمَنِهِ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ قَدَّرَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ بِأَرْبَعِينَ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى ثَمَانِينَ، وَإِنَّمَا جَازَ لَهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا عَلَى تَعَيُّنِهِ، وَالْحُكْمُ الْمَعْلُومُ مِنْهُ عَدَمُ تَعَيُّنِهِ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ انْتَهَى إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ فِي ذَلِكَ الرَّجُلِ لِزِيَادَةِ فَسَادٍ فِيهِ، ثُمَّ رَأَوْا أَهْلَ الزَّمَانِ تَغَيَّرُوا إلَى نَحْوِهِ أَوْ أَكْثَرَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ السَّائِبِ: حَتَّى إذَا عَتَوْا وَفَسَقُوا وَعَلِمُوا أَنَّ الزَّمَانَ كُلَّمَا تَأَخَّرَ كَانَ فَسَادُ أَهْلِهِ أَكْثَرَ

<<  <  ج: ص:  >  >>