للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(وَإِنْ صَالَحَهُمْ مُدَّةً ثُمَّ رَأَى نَقْضَ الصُّلْحِ أَنْفَعَ نَبَذَ إلَيْهِمْ وَقَاتَلَهُمْ) «لِأَنَّهُ نَبَذَ الْمُوَادَعَةَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ»، وَلِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ لَمَّا تَبَدَّلَتْ كَانَ النَّبْذُ جِهَادًا وَإِيفَاءُ الْعَهْدِ تَرْكُ الْجِهَادِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَلَا بُدَّ مِنْ النَّبْذِ تَحَرُّزًا عَنْ الْغَدْرِ، وَقَدْ قَالَ «فِي الْعُهُودِ وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ» وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مُدَّةٍ يَبْلُغُ فِيهَا خَبَرُ النَّبْذِ إلَى جَمِيعِهِمْ، وَيَكْتَفِي فِي ذَلِكَ بِمُضِيِّ مُدَّةٍ يَتَمَكَّنُ مَلِكُهُمْ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالنَّبْذِ مِنْ إنْفَاذِ الْخَبَرِ إلَى أَطْرَافِ مَمْلَكَتِهِ؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ يَنْتَفِي الْغَدْرُ.

قَالَ (وَإِنَّ بَدَءُوا بِخِيَانَةٍ قَاتَلَهُمْ وَلَمْ يُنْبِذْ إلَيْهِمْ إذَا كَانَ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِهِمْ) لِأَنَّهُمْ صَارُوا نَاقِضِينَ لِلْعَهْدِ فَلَا حَاجَةَ إلَى نَقْضِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا دَخَلَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ فَقَطَعُوا الطَّرِيقَ وَلَا مَنَعَةَ لَهُمْ حَيْثُ لَا يَكُونُ هَذَا نَقْضًا لِلْعَهْدِ، وَلَوْ كَانَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَقَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَانِيَةً يَكُونُ نَقْضًا لِلْعَهْدِ فِي حَقِّهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهُ بِغَيْرِ إذْنِ مَلِكِهِمْ فَفِعْلُهُمْ لَا يُلْزِمُ غَيْرَهُمْ حَتَّى لَوْ كَانَ بِإِذْنِ مَلِكِهِمْ صَارُوا نَاقِضِينَ لِلْعَهْدِ لِأَنَّهُ بِاتِّفَاقِهِمْ مَعْنًى.

قَوْلُهُ وَإِنْ صَالَحَهُمْ مُدَّةً ثُمَّ رَأَى أَنَّ نَقْضَ الصُّلْحِ أَنْفَعُ نَبَذَ إلَيْهِمْ) أَيْ أَلْقَى إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ وَذَلِكَ بِأَنْ يُعْلِمَهُمْ أَنَّهُ رَجَعَ عَمَّا كَانَ وَقَعَ، قَالَ تَعَالَى ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ﴾ أَيْ عَلَى سَوَاءٍ مِنْكُمْ وَمِنْهُمْ فِي الْعِلْمِ بِذَلِكَ، لَكِنْ ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِخَوْفِ الْخِيَانَةِ، وَهُوَ مِثْلُ ﴿إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا﴾ فِي الْكِتَابَةِ، وَلَعَلَّ خَوْفَ الْخِيَانَةِ لَازِمٌ لِلْعِلْمِ بِكُفْرِهِمْ وَكَوْنِهِمْ حَرْبًا عَلَيْنَا.

وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَقَيَّدُ بِخُطُورِ الْخَوْفِ؛ لِأَنَّ الْمُهَادَنَةَ فِي الْأَوَّلِ مَا صَحَّتْ إلَّا لِأَنَّهَا أَنْفَعُ فَلَمَّا تَبَدَّلَ الْحَالُ عَادَ إلَى الْمَنْعِ (وَلَا بُدَّ مِنْ النَّبْذِ تَحَرُّزًا عَنْ الْغَدْرِ) وَهُوَ مُحَرَّمٌ بِالْعُمُومَاتِ نَحْوَ مَا صَحَّ فِي الْبُخَارِيِّ عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ «أَرْبَعُ خِصَالٍ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا: مَنْ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ: «كَانَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَبَيْنَ الرُّومِ عَهْدٌ وَكَانَ يَسِيرُ نَحْوَ بِلَادِهِمْ حَتَّى إذَا انْقَضَى الْعَهْدُ غَزَاهُمْ فَجَاءَ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ أَوْ بِرْذَوْنٍ وَهُوَ يَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ، فَنَظَرُوا فَإِذَا هُوَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ مُعَاوِيَةُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ مِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلْيَشُدَّ عَقْدَهُ وَلَا يَحِلَّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُّهَا أَوْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ فَرَجَعَ مُعَاوِيَةُ بِالنَّاسِ»، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُمْ.

وَأَمَّا مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مِنْ قَوْلِهِ «وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ» فَلَمْ يُعْرَفْ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ إلَّا مِنْ قَوْلِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ هَذَا. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ «بِأَنَّهُ نَبَذَ الْمُوَادَعَةَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ» فَالْأَلْيَقُ أَنْ يُجْعَلَ دَلِيلًا فِيمَا يَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ (وَإِنْ بَدَءُوا بِخِيَانَةٍ قَاتَلَهُمْ وَلَمْ يَنْبِذْ إلَيْهِمْ إذَا كَانَ بِاتِّفَاقِهِمْ لِأَنَّهُمْ صَارُوا نَاقِضِينَ لِلْعَهْدِ فَلَا حَاجَةَ إلَى نَقْضِهِ) وَكَذَا إذَا دَخَلَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَقَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَانِيَةً يَكُونُ نَقْضًا فِي حَقِّهِمْ خَاصَّةً فَيُقْتَلُونَ وَيَسْتَرِقُّونَهُمْ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ الذَّرَارِيّ، إلَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ مَلِكِهِمْ فَيَكُونَ نَقْضًا فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ مَنَعَةٌ لَمْ يَكُنْ نَقْضًا لَا فِي حَقِّهِمْ، وَلَا فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ.

وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْدَأْ أَهْلُ مَكَّةَ بَلْ هُمْ بَدَءُوا بِالْغَدْرِ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَقَاتَلَهُمْ وَلَمْ يَنْبِذْ إلَيْهِمْ بَلْ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُعْمِيَ عَلَيْهِمْ حَتَّى

<<  <  ج: ص:  >  >>