لِأَنَّ دَفْعَ الْهَلَاكِ وَاجِبٌ بِأَيِّ طَرِيقٍ يُمْكِنُ
(وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُبَاعَ السِّلَاحُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَلَا يُجَهَّزُ إلَيْهِمْ) لِأَنَّ النَّبِيَّ ﵊ نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَحَمْلِهِ إلَيْهِمْ،
أَنْ يَرْجِعَا بِمَنْ مَعَهُمَا، فَجَرَى بَيْنَهُمَا الصُّلْحُ حَتَّى كَتَبُوا الْكِتَابَ وَلَمْ تَقَعْ الشَّهَادَةُ وَلَا عَزِيمَةُ الصُّلْحِ، فَلَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَفْعَلَ بَعَثَ إلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَذَكَرَ لَهُمَا ذَلِكَ وَاسْتَشَارَهُمَا فِيهِ، فَقَالَا لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْرًا تُحِبُّهُ فَتَصْنَعَهُ أَمْ شَيْئًا أَمَرَك اللَّهُ بِهِ لَا بُدَّ لَنَا مِنْ الْعَمَلِ بِهِ أَمْ شَيْئًا تَصْنَعُهُ لَنَا؟ قَالَ: بَلْ شَيْءٌ أَصْنَعُهُ لَكُمْ، وَاَللَّهِ مَا أَصْنَعُ ذَلِكَ إلَّا لِأَنِّي رَأَيْت الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ وَكَالَبُوكُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَأَرَدْت أَنْ أَكْسِرَ عَنْكُمْ مِنْ شَوْكَتِهِمْ إلَى أَمْرٍ مَا، فَقَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ كُنَّا نَحْنُ وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ عَلَى الشِّرْكِ بِاَللَّهِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ لَا نَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا نَعْرِفُهُ وَهُمْ لَا يَطْمَعُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنَّا تَمْرَةً إلَّا قِرًى أَوْ بَيْعًا، أَفَحَيْنَ أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ وَهَدَانَا لَهُ وَأَعَزَّنَا بِك وَبِهِ نُعْطِيهِمْ أَمْوَالَنَا؟ مَا لَنَا بِهَذَا مِنْ حَاجَةٍ، وَاَللَّهِ مَا نُعْطِيهِمْ إلَّا السَّيْفَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: فَأَنْتَ وَذَاكَ، فَتَنَاوَلَ سَعْدٌ الصَّحِيفَةَ فَمَحَا مَا فِيهَا مِنْ الْكِتَابَةِ، ثُمَّ قَالَ: لِيُجْهِدُوا عَلَيْنَا».
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي بِهِ عَاصِمُ بْنُ عَمْرِو بْنِ قَتَادَةَ وَمَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ. وَعَلَّلَ الْمُصَنِّفُ هَذَا بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ دَفَعَ الْهَلَاكِ وَاجِبٌ بِأَيِّ طَرِيقٍ يُمْكِنُ) وَهُوَ تَسَاهُلٌ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ دَفْعُ الْهَلَاكِ بِإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَلَا بِقَتْلِ غَيْرِهِ لَوْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِقَتْلِ نَفْسِهِ بَلْ يَصْبِرُ لِلْقَتْلِ وَلَا يَقْتُلُ غَيْرَهُ؛ وَلَوْ شَرَطُوا فِي الصُّلْحِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ مَنْ جَاءَ مُسْلِمًا مِنْهُمْ بَطَلَ الشَّرْطُ فَلَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ فَلَا يُرَدُّ إلَيْهِمْ مَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ مُسْلِمًا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ فِي الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ «لِأَنَّهُ ﷺ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ جَاءَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ عَمْرِو بْنِ سُهَيْلٍ وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ فَرَدَّهُ، فَصَارَ يُنَادِي يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَأُرَدُّ إلَى الْمُشْرِكِينَ يَفْتِنُونِي عَنْ دِينِي؟ فَقَالَ لَهُ ﵊: اصْبِرْ أَبَا جَنْدَلٍ وَاحْتَسِبْ فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَك وَلِمَنْ مَعَك مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَكَذَا رَدَّ أَبَا بَصِيرٍ» وَأَمَّا لَوْ شُرِطَ مِثْلُهُ فِي النِّسَاءِ لَا يَجُوزُ رَدُّهُنَّ وَلَا شَكَّ فِي انْفِسَاخِ نِكَاحِهَا، فَلَوْ طَلَبَ زَوْجُهَا الْحَرْبِيُّ الْمَهْرَ هَلْ يُعْطَاهُ؟ لِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ لَا يُعْطَاهُ وَهُوَ قَوْلُنَا، وَقَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَفِي قَوْلٍ يُعْطَاهُ، قَالَ تَعَالَى ﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ﴾ وَهَذَا هُوَ دَلِيلُ النَّسْخِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ أَيْضًا، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ فِي ذَلِكَ، بَلْ مَفْسَدَةُ رَدِّ الْمُسْلِمِ إلَيْهِمْ أَكْثَرُ، وَحِينَ شُرِعَ ذَلِكَ كَانَ فِي قَوْمٍ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ لَا يُبَالِغُونَ فِي تَعْذِيبِهِ، فَإِنَّ كُلَّ قَبِيلَةٍ لَا تَتَعَرَّضُ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلَةٍ أُخْرَى إنَّمَا يَتَوَلَّى رَدْعَهُ عَشِيرَتَهُ، وَهُمْ لَا يَبْلُغُونَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ الْقَيْدِ وَالسَّبِّ وَالْإِهَانَةِ، وَلَقَدْ كَانَ بِمَكَّةَ بَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِثْلِ أَبِي بَصِيرٍ وَأَبِي جَنْدَلِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سُهَيْلٍ إلَى نَحْوِ سَبْعِينَ لَمْ يَبْلُغُوا فِيهِمْ النِّكَايَةَ لِعَشَائِرِهِمْ وَالْأَمْرُ الْآنَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ
(قَوْلُهُ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُبَاعَ السِّلَاحُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ) إذَا حَضَرُوا مُسْتَأْمَنِينَ (وَلَا يُجَهَّزُ إلَيْهِمْ) مَعَ التُّجَّارِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ «لِأَنَّهُ ﵊ نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَحَمَلَهُ إلَيْهِمْ» وَالْمَعْرُوفُ مَا فِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيّ وَمُسْنَدِ الْبَزَّارِ وَمُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute