(وَإِنْ شَاءَ أَقَرَّ أَهْلَهُ عَلَيْهِ وَوَضَعَ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ وَعَلَى أَرَاضِيهمْ الْخَرَاجَ) كَذَلِكَ فَعَلَ عُمَرُ ﵁ بِسَوَادِ الْعِرَاقِ بِمُوَافَقَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُحْمَدْ مَنْ خَالَفَهُ،
نَعَمْ لَهُ أَنْ يُبْقِيَهُمْ أَحْرَارًا ذِمَّةً بِوَضْعِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ بِلَا مَالٍ يَدْفَعُهُ إلَيْهِمْ فَيَكُونُوا فُقَرَاءَ يَكْتَسِبُونَ بِالسَّعْيِ وَالْأَعْمَالِ، وَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُمْ وَلَهُ أَنْ يَسْتَرِقَّهُمْ كَمَا سَيَذْكُرُ.
هَذَا وَقَدْ قِيلَ الْأَوْلَى الْأَوَّلُ وَهُوَ قِسْمَةُ الْأَرَاضِي وَغَيْرِهَا إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ، وَالثَّانِي عِنْدَ عَدَمِهَا.
ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِ قِسْمَةِ الْأَرْضِ بِقِسْمَتِهِ ﵊ خَيْبَرَ بِمَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «قَالَ عُمَرُ ﵁: لَوْلَا آخِرُ الْمُسْلِمِينَ مَا فُتِحَتْ بَلْدَةٌ وَلَا قَرْيَةٌ إلَّا قَسَمْتهَا بَيْنَ أَهْلِهَا كَمَا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَيْبَرَ». وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ: أَخْبَرْنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْت «عُمَرَ يَقُولُ: لَوْلَا أَنْ يُتْرَكَ آخِرُ النَّاسِ لَا شَيْءَ لَهُمْ مَا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ قَرْيَةً إلَّا قَسَمْتهَا سُهْمَانًا كَمَا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَيْبَرَ سُهْمَانًا» فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ قَسَّمَهَا كُلَّهَا.
وَاَلَّذِي فِي أَبِي دَاوُد بِسَنَدٍ جَيِّدٍ أَنَّهُ «قَسَّمَ خَيْبَرَ نِصْفَيْنِ نِصْفًا لِنَوَائِبِهِ وَنِصْفًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، قَسَّمَهَا بَيْنَهُمْ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا». وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ «أَنَّهُ قَسَّمَهَا سِتَّةً وَثَلَاثِينَ سَهْمًا جَمَعَ كُلُّ سَهْمٍ مِائَةَ سَهْمٍ: يَعْنِي أَعْطَى لِكُلِّ مِائَةِ رَجُلٍ سَهْمًا». وَقَدْ جَاءَ مُبَيَّنًا كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ، فَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَلِلْمُسْلِمِينَ النِّصْفُ مِنْ ذَلِكَ، وَعَزَلَ النِّصْفَ مِنْ ذَلِكَ لِمَنْ يَنْزِلُ بِهِ مِنْ الْوُفُودِ وَالْأُمُورِ وَنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ.
وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّهُ نِصْفُ النِّصْفِ لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مَعْنَى مَالِ بَيْتِ الْمَالِ.
ثُمَّ ذَكَرَهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ النِّصْفَ كَانَ الْوَطِيحَ وَالْكَتِيبَةَ وَالسَّلَالِمَ وَتَوَابِعَهَا، فَلَمَّا صَارَتْ الْأَمْوَالُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَالْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عُمَّالٌ يَكْفُونَهُمْ عَمَلَهَا فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْيَهُودَ فَعَامَلَهُمْ. زَادَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ فَعَامَلَهُمْ بِنِصْفِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ حَيَاةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَبِي بَكْرٍ حَتَّى كَانَ عُمَرُ، فَكَثُرَ الْعُمَّالُ فِي الْمُسْلِمِينَ وَقَوُوا عَلَى الْعَمَلِ، فَأَجْلَى عُمَرُ ﵁ الْيَهُودَ إلَى أَرْضِ الشَّامِ وَقَسَمَ الْأَمْوَالَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَى الْيَوْمِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الْمَغَازِي فِي أَنَّ خَيْبَرَ فُتِحَتْ كُلُّهَا عَنْوَةً أَوْ بَعْضُهَا صُلْحًا، وَصَحَّحَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْأَوَّلَ.
وَرَوَى مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ الثَّانِيَ، وَغَلَّطَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ: وَإِنَّمَا دَخَلَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْحِصْنَيْنِ اللَّذَيْنِ أَسْلَمَهُمَا أَهْلُهُمَا فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَهُمَا الْوَطِيحُ وَالسَّلَالِمُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ ﷺ لَمَّا حَاصَرَهُمْ فِيهِمَا حَتَّى أَيْقَنُوا بِالْهَلَكَةِ سَأَلُوهُ أَنْ يُسَيِّرَهُمْ، وَأَنْ يَحْقِنَ لَهُمْ دِمَاءَهُمْ فَفَعَلَ، فَحَازَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْأَمْوَالَ وَجَمِيعَ الْحُصُونِ إلَّا مَا كَانَ مِنْ ذَيْنِك الْحِصْنَيْنِ، إلَى أَنْ قَالَ: فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ أَهْلُ ذَيْنِك الْحِصْنَيْنِ مَغْنُومِينَ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ صُلْحٌ، وَلَعَمْرِي إنَّهُ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ لَضَرْبٌ مِنْ الصُّلْحِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَتْرُكُوا أَرْضَهُمْ إلَّا بِالْحِصَارِ وَالْقِتَالِ فَكَانَ حُكْمُهَا كَحُكْمِ سَائِرِ أَرْضِ خَيْبَرَ كُلِّهَا عَنْوَةً غَنِيمَةً مَقْسُومَةً بَيْنَ أَهْلِهَا، إلَى أَنْ قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ صُلْحًا لَمَلَكَهَا أَهْلُهَا كَمَا مَلَكَ أَهْلُ الصُّلْحِ أَرْضَهُمْ وَسَائِرَ أَمْوَالِهِمْ» فَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ مَا قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ: أَيْ أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً دُونَ مَا قَالَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْهُ اهـ (قَوْلُهُ: وَإِنْ شَاءَ أَقَرَّ أَهْلَهُ إلَى قَوْلِهِ: هَكَذَا فَعَلَ عُمَرُ بِسَوَادِ الْعِرَاقِ) لَا شَكَّ فِي إقْرَارِ عُمَرَ ﵁ أَهْلَ السَّوَادِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute