للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَمَّا الْمُفَادَاةُ بِمَالٍ يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ لَا يَجُوزُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الْمَذْهَبِ لِمَا بَيَّنَّا. وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ اسْتَدَلَّا بِأُسَارَى بَدْرٍ، وَلَوْ كَانَ أَسْلَمَ الْأَسِيرُ فِي أَيْدِينَا لَا يُفَادَى بِمُسْلِمٍ أَسِيرٌ فِي أَيْدِيهِمْ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إلَّا إذَا طَابَتْ نَفْسُهُ بِهِ وَهُوَ مَأْمُونٌ عَلَى إسْلَامِهِ. قَالَ (وَلَا يَجُوزُ الْمَنُّ عَلَيْهِمْ) أَيْ عَلَى الْأُسَارَى خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ يَقُولُ «مِنْ رَسُولِ اللَّهِ عَلَى بَعْضِ الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾» وَلِأَنَّهُ بِالْأَسْرِ وَالْقَسْرِ ثَبَتَ حَقُّ الِاسْتِرْقَاقِ فِيهِ

فَدَى رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِرَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ» وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ إيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ عَنْ أَبِيهِ «خَرَجْنَا مَعَ أَبِي بَكْرٍ أَمَّرَهُ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ إلَى أَنْ قَالَ: فَلَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ فِي السُّوقِ فَقَالَ لِي: يَا سَلَمَةُ هَبْ لِي الْمَرْأَةَ لِلَّهِ أَبُوكَ: أَعْنِي الَّتِي كَانَ أَبُو بَكْرٍ نَفَّلَهُ إيَّاهَا، فَقُلْت: هِيَ لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاَللَّهِ مَا كَشَفْت لَهَا ثَوْبًا، فَبَعَثَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ فَفَدَى بِهَا نَاسًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا أُسِرُوا بِمَكَّةَ» إلَّا أَنَّ هَذَا يُخَالِفُ رَأْيَهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُفَادُونَ بِالنِّسَاءِ وَيَبْقَى الْأَوَّلُ (قَوْلُهُ أَمَّا الْمُفَادَاةُ بِمَالٍ يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ لَا يَجُوزُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الْمَذْهَبِ لِمَا بَيَّنَّا) فِي الْمُفَادَاةِ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ رَدِّهِ حَرْبًا عَلَيْنَا (وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ اسْتِدْلَالًا بِأُسَارَى بَدْرٍ) إذْ لَا شَكَّ فِي احْتِيَاجِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ فِي شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إذَا ذَاكَ، فَلْيَكُنْ مَحْمَلُ الْمُفَادَاةِ الْكَائِنَةِ فِي بَدْرٍ بِالْمَالِ.

وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ تِلْكَ الْمُفَادَاةِ مِنْ الْعَتَبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ﴾ أَيْ يَقْتُلَ أَعْدَاءَ اللَّهِ مِنْ الْأَرْضِ فَيَنْفِيَهُمْ عَنْهَا ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾ قَوْله تَعَالَى ﴿لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ﴾ وَهُوَ أَنْ لَا يُعَذِّبَ أَحَدًا قَبْلَ النَّهْيِ، وَلَمْ يَكُنْ نَهَاهُمْ ﴿لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ﴾ مِنْ الْغَنَائِمِ وَالْأُسَارَى ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ ثُمَّ أَحَلَّهَا لَهُ وَلَهُمْ رَحْمَةً مِنْهُ تَعَالَى فَقَالَ ﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا﴾ هِيَ لِلْمَجْمُوعِ مِنْ الْفِدَاءِ وَغَيْرِهِ وَقِيلَ لِلْغَنِيمَةِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ.

قُلْنَا: لَوْ سَلَّمَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَجِبُ تَقْيِيدُهُ بِمَا إذَا لَمْ يَضُرَّ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَفِي رَدِّهِ تَكْثِيرُ الْمُحَارَبِينَ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ. وَفِي الْكَشَّافِ وَغَيْرِهِ أَنَّ عُمَرَ كَانَ أَشَارَ بِقَتْلِهِمْ. وَأَبُو بَكْرٍ بِأَخْذِ الْفِدَاءِ تَقَوِّيًا وَرَجَاءَ أَنْ يُسْلِمُوا.

وَرُوِيَ «أَنَّهُمْ لَمَّا أَخَذُوا الْفِدَاءَ نَزَلَتْ الْآيَةُ، فَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى النَّبِيِّ فَإِذَا هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ يَبْكِيَانِ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ: أَبْكِي عَلَى أَصْحَابِك فِي أَخْذِهِمْ الْفِدَاءَ، لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ» قَالَ: وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ «لَوْ نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ عَذَابٌ مَا نَجَا مِنْهُ إلَّا عُمَرُ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ» لِقَوْلِهِ كَانَ الْإِثْخَانُ فِي الْقَتْلِ أَحَبَّ إلَيَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ (قَوْلُهُ وَلَوْ أَسْلَمَ الْأَسِيرُ وَهُوَ فِي أَيْدِينَا لَا يُفَادَى بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إلَّا إذَا طَابَتْ نَفْسُهُ وَهُوَ مَأْمُونٌ عَلَى إسْلَامِهِ) فَيَجُوزُ لِأَنَّهُ يُفِيدُ تَخْلِيصَ مُسْلِمٍ مِنْ غَيْرِ إضْرَارٍ لِمُسْلِمٍ آخَرَ (قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ الْمَنُّ عَلَى الْأُسَارَى) وَهُوَ أَنْ يُطْلِقَهُمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ بِغَيْرِ شَيْءٍ (خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ) إذَا رَأَى الْإِمَامُ ذَلِكَ، وَبِقَوْلِنَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ.

وَجْهُ قَوْلِ

<<  <  ج: ص:  >  >>