لِمَا قُلْنَا (ثُمَّ لَا يُتْرَكُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ)؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ لَا يُنْقَضُ، كَيْفَ وَأَنَّ فِيهِ قَطْعَ الْجِزْيَةِ وَجَعْلَ وَلَدِهِ حَرْبًا عَلَيْنَا وَفِيهِ مَضَرَّةٌ بِالْمُسْلِمِينَ.
(فَإِنْ دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ وَاشْتَرَى أَرْضَ خَرَاجٍ فَإِذَا وُضِعَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ فَهُوَ ذِمِّيٌّ)؛ لِأَنَّ خَرَاجَ الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ خَرَاجِ الرَّأْسِ، فَإِذَا الْتَزَمَهُ صَارَ مُلْتَزِمًا الْمَقَامَ فِي دَارِنَا، أَمَّا بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَشْتَرِيهَا لِلتِّجَارَةِ، وَإِذَا لَزِمَهُ خَرَاجُ الْأَرْضِ فَبَعْدَ ذَلِكَ تَلْزَمُهُ الْجِزْيَةُ لِسَنَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ ذِمِّيًّا بِلُزُومِ الْخَرَاجِ
ذِمِّيًّا (فَلَا يُمَكَّنُ بَعْدَهَا مِنْ الْعَوْدِ إلَى دَارِهِ)؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ لَا يُنْقَضُ إذْ فِيهِ قَطْعُ الْجِزْيَةِ (وَتَصْيِيرُهُ وَوَلَدَهُ حَرْبًا عَلَيْنَا وَفِيهِ مَضَرَّةٌ بِالْمُسْلِمِينَ) وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ جِزْيَةٌ لِلسَّنَةِ الَّتِي أَقَامَهَا إلَّا إنْ قَالَ لَهُ: إنْ أَقَمْتهَا أَخَذْت مِنْك الْجِزْيَةَ.
وَقَوْلُهُ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْإِمَامِ يُفِيدُ اشْتِرَاطَ تَقَدُّمِ الْإِمَامِ إلَيْهِ فِي مَنْعِهِ مِنْ الْعَوْدِ إذَا أَقَامَ سَنَةً، وَبِهِ صَرَّحَ الْعَتَّابِيُّ فَقَالَ: (لَوْ أَقَامَ سِنِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَقَدَّم إلَيْهِ الْإِمَامُ فَلَهُ الرُّجُوعُ). قِيلَ: وَلَفْظُ الْمَبْسُوطِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَقَدُّمَ الْإِمَامِ لَيْسَ شَرْطًا لِصَيْرُورَتِهِ ذِمِّيًّا، فَإِنَّهُ قَالَ: يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَقَدَّم إلَيْهِ فَيَأْمُرَهُ إلَى أَنْ قَالَ: وَإِنْ لَمْ يُقَدِّرْ لَهُ مُدَّةً فَالْمُعْتَبَرُ الْحَوْلُ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ؛ لِأَنَّهُ يُصَدَّقُ بِقَوْلِهِ إنْ أَقَمْت طَوِيلًا مَنَعْتُك مِنْ الْعَوْدِ، فَإِنْ أَقَامَ سَنَةً مَنَعَهُ، وَفِي هَذَا اشْتِرَاطُ التَّقَدُّمِ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُوَقِّتْ لَهُ مُدَّةً خَاصَّةً، وَالْوَجْهُ أَنْ لَا يَمْنَعَهُ حَتَّى يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ وَلَا أَنْ يُوَقِّتَ مُدَّةً قَلِيلَةً كَالشَّهْرِ وَالشَّهْرَيْنِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُلْحِقَهُ عُسْرًا بِتَقْصِيرِ الْمُدَّةِ جِدًّا خُصُوصًا إذَا كَانَ لَهُ مُعَامَلَاتٌ يَحْتَاجُ فِي اقْتِضَائِهَا إلَى مُدَّةٍ مَدِيدَةٍ.
[فُرُوعٌ] لَوْ مَاتَ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَنْ مَالٍ وَوَرَثَتُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وُقِفَ مَالُهُ لِوَرَثَتِهِ، فَإِذَا قَدِمُوا فَلَا بُدَّ أَنْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ فَيَأْخُذُوا، فَإِنْ أَقَامُوا بَيِّنَةً مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ قُبِلَتْ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ إقَامَتَهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ أَنْسَابَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَعْرِفُهَا الْمُسْلِمُونَ فَصَارَ كَشَهَادَةِ النِّسَاءِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، فَإِذَا قَالُوا: لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُمْ دَفَعَ إلَيْهِمْ الْمَالَ، وَأَخَذَ مِنْهُمْ كَفِيلًا لِمَا يَظْهَرُ فِي الْمَآلِ مِنْ ذَلِكَ. قِيلَ: هُوَ قَوْلُهُمَا لَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا فِي الْمُسْلِمِينَ. وَقِيلَ بَلْ هُوَ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا، وَلَا يُقْبَلُ كِتَابُ مَلِكِهِمْ وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ كِتَابُهُ، وَإِذَا رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لَا يُمَكَّنُ أَنْ يَرْجِعَ مَعَهُ بِسِلَاحٍ اشْتَرَاهُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ بَلْ بِاَلَّذِي دَخَلَ بِهِ، فَإِنْ بَاعَ سَيْفَهُ وَاشْتَرَى بِهِ قَوْسًا أَوْ نُشَّابًا أَوْ رُمْحًا لَا يُمَكَّنُ مِنْهُ، وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى سَيْفًا أَحْسَنَ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ مِثْلَ الْأَوَّلِ أَوْ دُونَهُ مُكِّنَ مِنْهُ، وَمَنْ وُجِدَ فِي دَارِنَا بِلَا أَمَانٍ فَهُوَ وَمَا مَعَهُ فَيْءٌ، فَإِنْ قَالَ: دَخَلْت بِأَمَانٍ لَمْ يُصَدَّقْ وَأُخِذَ، وَلَوْ قَالَ: أَنَا رَسُولٌ، فَإِنْ وُجِدَ مَعَهُ كِتَابٌ يُعْرَفُ أَنَّهُ كِتَابُ مَلِكِهِمْ بِعَلَامَةٍ تُعْرَفُ بِذَلِكَ كَانَ آمِنًا فَإِنَّ الرَّسُولَ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَمَانٍ خَاصٍّ بَلْ بِكَوْنِهِ رَسُولًا يَأْمَنُ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ فَهُوَ زُورٌ فَيَكُونُ هُوَ وَمَا مَعَهُ فَيْئًا، وَإِذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِلَا أَمَانٍ فَأَخَذَهُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يَخْتَصُّ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَلْ يَكُونُ فَيْئًا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ رِوَايَةُ بِشْرٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ يَخْتَصُّ بِهِ، وَلَوْ دَخَلَ الْحَرَمَ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُؤْخَذُ وَيَكُون فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا وَلَكِنْ لَا يُطْعَمُ وَلَا يُسْقَى وَلَا يُؤْذَى حَتَّى يَخْرُجَ.
(قَوْلُهُ: وَإِنْ دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ وَاشْتَرَى أَرْضَ خَرَاجٍ فَإِذَا وُضِعَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ صَارَ ذِمِّيًّا) وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى عُشْرِيَّةً فَإِنَّهَا تَسْتَمِرُّ عُشْرِيَّةً عَلَى قَوْلِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute