وَلِأَنَّ أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ وَالْجَوْرِ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا، وَكَفَى بِإِجْمَاعِهِمْ حُجَّةً؛ وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ فِي أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً قَهْرًا، وَالْعُشْرُ فِي أَرْضٍ أَسْلَمَ أَهْلُهَا طَوْعًا، وَالْوَصْفَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ، وَسَبَبُ الْحَقَّيْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ إلَّا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الْعُشْرِ تَحْقِيقًا وَفِي الْخَرَاجِ تَقْدِيرًا، وَلِهَذَا يُضَافَانِ إلَى الْأَرْضِ،
وَيَحْيَى بْنُ عَنْبَسَةَ مُضَعَّفٌ إلَى غَايَةٍ حَتَّى نُسِبَ إلَى الْوَضْعِ، وَإِلَى الْكَذِبِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنَّمَا رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ فَجَاءَ يَحْيَى وَصَلَهُ. نَعَمْ إنَّمَا رُوِيَ عَنْ التَّابِعِينَ مِثْلِ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَعِكْرِمَةَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُغِيرَةِ خَتَنٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ حَمْزَةَ السَّلُولِيِّ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: " لَا يَجْتَمِعُ عُشْرٌ وَخَرَاجٌ فِي أَرْضٍ ". وَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُمَيْلَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ عَنْ أَبِي الْمُنِيبِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: " لَا يَجْتَمِعُ عُشْرٌ وَخَرَاجٌ فِي مَالٍ ". وَحَاصِلُ هَذَا كَمَا تَرَى لَيْسَ إلَّا نَقْلَ مَذْهَبِ بَعْضِ التَّابِعِينَ وَلَمْ يَرْفَعُوهُ فَيَكُونُ حَدِيثًا مُرْسَلًا. وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُبَارَكِ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَذْهَبًا لِجَمَاعَةٍ آخَرِينَ فَهَذَا نَقْلُ الْمَذَاهِبِ لَا اسْتِدْلَالٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَلِأَنَّ أَحَدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ إلَى آخِرِهِ) فَقَدْ مَنَعَ بِنَقْلِ ابْنِ الْمُنْذِرِ الْجَمْعَ فِي الْأَخْذِ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَلَمْ يَتِمَّ، وَعَدَمُ الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِهِ جَازَ كَوْنُهُ لِتَفْوِيضِ الدَّفْعِ إلَى الْمَالِكِ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ قَوْلُ صَحَابِيٍّ بِعَدَمِ الْجَمْعِ لِيَحْتَجَّ بِهِ مَنْ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِمْ عَلَى أَنَّ فِعْلَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقْتَضِي أَنْ لَيْسَ عُمَرُ ﵁ عَلَى مَنْعِ الْجَمْعِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَّبِعًا لَهُ مُقْتَفِيًا لِآثَارِهِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ كُتُبِهِ فِي جَوَابِ السَّائِلِ فِي مَسْأَلَةِ خُمُسِ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ إذَا رَجَعْت إلَيْهِ يُفِيدُك ذَلِكَ، ثُمَّ الْمُصَنِّفُ مَنَعَ تُعَدَّدَ السَّبَبِ وَجَعَلَ السَّبَبَ فِيهَا مَعًا الْأَرْضَ، وَلَا مَانِعَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالسَّبَبِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ الْأَرْضُ هُنَا وَظِيفَتَانِ مَعَ أَنَّ الْعُمُومَاتِ تَقْتَضِيهِ مِثْلَ قَوْلِهِ ﵊ «مَا سَقَتْ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ» فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يُؤْخَذَ مَعَ الْخَرَاجِ إنْ كَانَ؛ وَلِأَنَّ تَعَدُّدَ الْحُكْمِ وَاتِّحَادِهِ بِتَعَدُّدِ السَّبَبِ وَاتِّحَادِهِ، وَسَبَبُ كُلٍّ مِنْ الْخَرَاجِ وَالْعُشْرِ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ. (إلَّا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ النَّمَاءُ فِي الْعُشْرِ تَحْقِيقًا)؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ إضَافِيٌّ فَمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ خَارِجٌ لَا يَتَحَقَّقُ عُشْرُهُ (وَفِي الْخَرَاجِ تَقْدِيرًا، وَلِهَذَا يُضَافَانِ إلَيْهَا) فَيُقَالُ خَرَاجُ الْأَرْضِ وَعُشْرُ الْأَرْضِ وَالْإِضَافَةُ دَلِيلُ السَّبَبِيَّةِ، وَكَوْنُ الْأَرْضِ مَعَ النَّمَاءِ التَّقْدِيرِيِّ غَيْرَ الْأَرْضِ مَعَ التَّحْقِيقِيِّ مُخَالَفَةٌ اعْتِبَارِيَّةٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ، فَالْأَرْضُ النَّامِيَةُ هِيَ السَّبَبُ، وَإِذَا اتَّحَدَ السَّبَبُ اتَّحَدَ الْحُكْمُ وَصَارَ كَزَكَاةِ التِّجَارَةِ وَالسَّائِمَةِ، فَإِنَّ السَّبَبَ وَاحِدٌ بِالذَّاتِ وَهُوَ الْغُنْمُ مَثَلًا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يُقَالُ: الْغُنْمُ مَعَ السَّوْمِ غَيْرُهَا مَعَ قَصْدِ التِّجَارَةِ فَيَجِبُ كُلٌّ مِنْهُمَا لِتَعَدُّدِ السَّبَبِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ فِي الْأَرْضِ إذَا فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقَهْرًا، وَالْعُشْرُ فِي الْأَرْضِ إذَا أَسْلَمَ أَهْلُهَا) عَلَيْهَا، وَلَازِمُ الْأَوَّلِ الْكُرْهُ وَلَازِمُ الثَّانِي الطَّوْعُ وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ بَعْضَ صُوَرِ الْخَرَاجِ يَكُونُ مَعَ الْفَتْحِ عَنْوَةً، وَهُوَ مَا إذَا أُقِرَّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا، وَكَذَا بَعْضُ صُوَرِ الْعُشْرِ وَهُوَ مَا إذَا فَتَحَهَا عَنْوَةً وَقَسَّمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ، كَمَا أَنَّ بَعْضَ صُوَرِ الْخَرَاجِ لَا يَكُونُ مَعَ الْعَنْوَةِ وَالْقَهْرِ بَلْ لِلصُّلْحِ، أَوْ بِأَنْ أَحْيَاهَا وَسَقَاهَا بِمَاءِ الْأَنْهَارِ الصِّغَارِ، أَوْ كَانَتْ قَرِيبَةً مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ عَلَى الْخِلَافِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَاَلَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الرَّاشِدِينَ مِنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ ﵃ لَمْ يَأْخُذُوا عُشْرًا مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ، وَإِلَّا لَنُقِلَ كَمَا نُقِلَ تَفَاصِيلُ أَخْذِهِمْ الْخَرَاجَ بِهَذَا تَقْضِي الْعَادَةُ، وَكَوْنُهُمْ فَوَّضُوا الدَّفْعَ إلَى الْمُلَّاكِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، أَرَأَيْت إذَا كَانَ الْعُشْرُ وَظِيفَةً فِي الْأَرْضِ الَّتِي وُظِّفَ فِيهَا الْخَرَاجُ عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ هَلْ يَقْرَبُ أَنْ يَتَوَلَّوْا أَخْذَ وَظِيفَةٍ وَيَكِلُوا الْأُخْرَى إلَيْهِمْ لَيْسَ لِهَذَا مَعْنًى، وَكَيْفَ وَهُمْ كُفَّارٌ لَا يُؤْمَنُونَ عَلَى أَدَائِهِ مِنْ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ، وَإِذَا كَانَ الظَّنُّ عَدَمَ أَخْذِ الثَّلَاثَةِ صَحَّ دَلِيلًا بِفِعْلِ الصَّحَابَةِ خُصُوصًا الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ وَيَكُونُ إجْمَاعًا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute