(وَإِنْ انْهَدَمَتْ الْبِيَعُ وَالْكَنَائِسُ الْقَدِيمَةُ أَعَادُوهَا) لِأَنَّ الْأَبْنِيَةَ لَا تَبْقَى دَائِمًا، وَلَمَّا أَقَرَّهُمْ الْإِمَامُ فَقَدْ عَهِدَ إلَيْهِمْ الْإِعَادَةَ إلَّا أَنَّهُمْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ نَقْلِهَا؛ لِأَنَّهُ إحْدَاثٌ فِي الْحَقِيقَةِ،
وَالْبِيعَةُ لِمُتَعَبَّدِ النَّصَارَى، وَفِي دِيَارِ مِصْرَ لَا يُسْتَعْمَلُ لَفْظُ الْبِيعَةِ بَلْ الْكَنِيسَةِ لِمُتَعَبَّدِ الْفَرِيقَيْنِ، وَلَفْظُ الدَّيْرِ لِلنَّصَارَى خَاصَّةً. وَقَيَّدَ الْمُصَنِّفُ عُمُومَ دَارِ الْإِسْلَامِ بِالْأَمْصَارِ دُونَ الْقُرَى؛ لِأَنَّ الْأَمْصَارَ هِيَ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الشَّعَائِرُ، فَإِحْدَاثُهَا فِيهَا مُعَارَضَةٌ بِإِظْهَارِ مَا يُخَالِفُهَا فَلَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ الْقُرَى.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ فِي قُرَى دِيَارِنَا أَيْضًا لَا تَحْدُثُ فِي هَذَا الزَّمَانِ. ثُمَّ قَالَ الْقُدُورِيُّ: (وَإِنْ انْهَدَمَتْ الْبِيَعُ وَالْكَنَائِسُ الْقَدِيمَةُ أَعَادُوهَا) قَالَ الْمُصَنِّفُ: (لِأَنَّ الْأَبْنِيَةَ لَا تَبْقَى دَائِمًا، وَلَمَّا أَقَرَّهُمْ الْإِمَامُ فَقَدْ عَهِدَ إلَيْهِمْ الْإِعَادَةَ ضِمْنًا غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ نَقْلِهَا مِنْ مَكَان إلَى آخَرَ؛ لِأَنَّهُ إحْدَاثٌ) فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الْمَنْقُولِ إلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ، وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ ذَلِكَ إذَا كَانَ بِإِقْرَارِ الْإِمَامِ إيَّاهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ إذَا صَالَحَهُمْ عَلَى إقْرَارِهِمْ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ سَوَاءٌ كَانَ إمَامًا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَوْ بَعْدَهُمْ.
قِيلَ أَمْصَارُ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا مَا مَصَّرَهُ الْمُسْلِمُونَ كَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ وَوَاسِطٍ، فَلَا يَجُوزُ فِيهَا إحْدَاثُ بِيعَةٍ وَلَا كَنِيسَةٍ وَلَا مُجْتَمَعٍ لِصَلَاتِهِمْ وَلَا صَوْمَعَةٍ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَا يُمَكَّنُونَ فِيهِ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَاِتِّخَاذِ الْخَنَازِيرِ وَضَرْبِ النَّاقُوسِ. وَثَانِيهَا مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً فَلَا يَجُوزُ فِيهَا إحْدَاثُ شَيْءٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَمَا كَانَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ هَلْ يَجِبُ هَدْمُهُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: يَجِبُ. وَعِنْدَنَا جَعْلُهُمْ ذِمَّةً أَمْرُهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا كَنَائِسَهُمْ مَسَاكِنَ، وَيُمْنَعُ مِنْ صَلَاتِهِمْ فِيهَا وَلَكِنْ لَا تُهْدَمُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ فَتَحُوا كَثِيرًا مِنْ الْبِلَادِ عَنْوَةً، وَلَمْ يَهْدِمُوا كَنِيسَةً، وَلَا دَيْرًا، وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ قَطُّ. وَثَالِثُهَا مَا فُتِحَ صُلْحًا، فَإِنْ صَالَحَهُمْ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَهُمْ وَالْخَرَاجَ لَنَا جَازَ إحْدَاثُهُمْ، وَإِنْ صَالَحَهُمْ عَلَى أَنَّ الدَّارَ لَنَا وَيُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ فَالْحُكْمُ فِي الْكَنَائِسِ عَلَى مَا يُوَقَّعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ، فَإِنْ صَالَحَهُمْ عَلَى شَرْطِ تَمْكِينِ الْإِحْدَاثِ لَا يَمْنَعُهُمْ، إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يُصَالِحَهُمْ إلَّا عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ صُلْحُ عُمَرَ ﵁ مِنْ عَدَمِ إحْدَاثِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ مُطْلَقًا لَا يَجُوزُ الْإِحْدَاثُ وَلَا يُتَعَرَّضُ لِلْقَدِيمَةِ وَيُمْنَعُونَ مِنْ ضَرْبِ النَّاقُوسِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَاِتِّخَاذِ الْخِنْزِيرِ بِالْإِجْمَاعِ انْتَهَى.
وَقَوْلُهُ: يُمْنَعُونَ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ: أَيْ التَّجَاهُرِ بِهِ وَإِظْهَارِهِ. وَفِي الْمُحِيطِ: لَوْ ضَرَبُوا النَّاقُوسَ فِي جَوْفِ كَنَائِسِهِمْ لَا يُمْنَعُونَ انْتَهَى. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: كُلُّ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ مِصْرٍ أَوْ حَدِيقَةٍ لَهُمْ أَظْهَرُوا فِيهَا شَيْئًا مِنْ الْفِسْقِ مِثْلَ الزِّنَا وَالْفَوَاحِشَ الَّتِي يُحَرِّمُونَهَا فِي دِينِهِمْ يُمْنَعُونَ مِنْهُ، وَكَذَا عَنْ الْمَزَامِيرِ وَالطَّنَابِيرِ وَالْغِنَاءِ، وَمِنْ كَسَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْبِيَعَ وَالْكَنَائِسَ الْقَدِيمَةَ فِي السَّوَادِ لَا تُهْدَمُ عَلَى الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا، وَأَمَّا فِي الْأَمْصَارِ فَاخْتَلَفَ كَلَامُ مُحَمَّدٍ، فَذَكَرَ فِي الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ تُهْدَمُ الْقَدِيمَةُ، وَذَكَرَ فِي الْإِجَارَةِ أَنَّهَا لَا تُهْدَمُ وَعَمَلُ النَّاسِ عَلَى هَذَا، فَإِنَّا رَأَيْنَا كَثِيرًا مِنْهَا تَوَالَتْ عَلَيْهَا أَئِمَّةٌ وَأَزْمَانٌ وَهِيَ بَاقِيَةٌ لَمْ يَأْمُرْ بِهَدْمِهَا إمَامٌ فَكَانَ مُتَوَارِثًا مِنْ عَهْدِ الصَّحَابَةِ ﵃، وَعَلَى هَذَا لَوْ مَصَّرْنَا بَرِيَّةً فِيهَا دَيْرٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute