لِقَوْلِهِ ﵊ «لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ».
قَالَ (وَيُؤْخَذُ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِالتَّمَيُّزِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي زِيِّهِمْ وَمَرَاكِبِهِمْ وَسُرُوجِهِمْ وَقَلَانِسِهِمْ فَلَا يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ وَلَا يَعْمَلُونَ بِالسِّلَاحِ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَيُؤْخَذُ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِإِظْهَارِ الْكُسْتِيجَاتِ وَالرُّكُوبِ عَلَى السُّرُوجِ الَّتِي هِيَ كَهَيْئَةِ الْأَكُفِّ) وَإِنَّمَا يُؤْخَذُونَ بِذَلِكَ إظْهَارًا لِلصَّغَارِ عَلَيْهِمْ وَصِيَانَةً لِضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ يُكْرَمُ، وَالذِّمِّيُّ يُهَانُ، وَلَا يُبْتَدَأُ بِالسَّلَامِ وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ
خَمْرٌ وَلَا فِي قَرْيَةٍ مِنْهَا وَلَا فِي مَاءٍ مِنْ مِيَاه الْعَرَبِ وَيُمْنَعُونَ مِنْ أَنْ يَتَّخِذُوا أَرْضَ الْعَرَبِ مَسْكَنًا وَوَطَنًا، بِخِلَافِ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي لَيْسَتْ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ يُمَكَّنُونَ مِنْ سُكْنَاهَا وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ. وَذَلِكَ (لِقَوْلِهِ ﷺ «لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ») أَخْرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ: أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَحْوَصِ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ «لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «لَا يَجْتَمِعُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ، أَوْ قَالَ بِأَرْضِ الْحِجَازِ دِينَانِ» وَرَوَاهُ فِي الزَّكَاةِ وَزَادَ فِيهِ: " فَقَالَ عُمَرُ لِلْيَهُودِ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ عِنْدَهُ عَهْدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَلْيَأْتِ بِهِ، وَإِلَّا فَإِنِّي مُجْلِيكُمْ، قَالَ: فَأَجَلَاهُمْ عُمَرُ ". وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَالَ ذَلِكَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي عِلَلِهِ: هَذَا صَحِيحٌ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ. قَالَ مَالِكٌ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَفَحَصَ عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ «لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» فَأَجْلَى يَهُودَ خَيْبَرَ وَأَجْلَى يَهُودَ نَجْرَانَ وَفَدَكَ.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ «لَمَّا اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَجَعُهُ قَالَ: أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» وَجَزِيرَةُ الْعَرَبِ مِنْ أَقْصَى عَدَنَ أَبْيَنَ إلَى رِيفِ الْعِرَاقِ فِي الطُّولِ، وَأَمَّا الْعَرْضُ فَمِنْ جُدَّةَ وَمَا وَالَاهَا مِنْ سَاحِلِ الْبَحْرِ إلَى أَطْرَافِ الشَّامِ، وَسُمِّيَتْ جَزِيرَةً لِانْجِزَارِ الْمِيَاهِ الَّتِي حَوَالَيْهَا عَنْهَا كَبَحْرِ الْبَصْرَةِ وَعُمَانَ وَعَدَنَ وَالْفُرَاتِ. وَقِيلَ؛ لِأَنَّ حَوَالَيْهَا بَحْرُ الْحَبَشِ وَبَحْرُ فَارِسٍ وَدِجْلَةُ وَالْفُرَاتُ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ بَحْرَ فَارِسٍ وَبَحْرَ السُّودَانِ أَحَاطَا بِجَانِبِهَا الْجَنُوبِيِّ، وَأَحَاطَ بِالْجَانِبِ الشَّمَالِيِّ دِجْلَةُ وَالْفُرَاتُ. وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: قَالَ مَالِكٌ: جَزِيرَةُ الْعَرَبِ الْمَدِينَةُ نَفْسُهَا، وَرُوِيَ أَنَّهَا الْحِجَازُ وَالْيَمَنُ وَالْيَمَامَةُ، وَحَكَى الْبُخَارِيُّ عَنْ الْمُغِيرَةِ قَالَ: هِيَ أَرْضُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ.
(قَوْلُهُ: وَتُؤْخَذُ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِالتَّمَيُّزِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي زِيِّهِمْ) نَفْسِهِمْ (وَفِي مَرَاكِبِهِمْ وَسُرُوجِهِمْ وَقَلَانِسِهِمْ) وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَمَّا كَانُوا مُخَالِطِينَ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فَلَا بُدَّ مِمَّا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْمُسْلِمُ مِنْ الْكَافِرِ كَيْ لَا يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِ فِي التَّوْقِيرِ وَالْإِجْلَالِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَرُبَّمَا يَمُوتُ أَحَدُهُمْ فَجْأَةً فِي الطَّرِيقِ وَلَا يُعْرَفُ فَيُصَلَّى عَلَيْهِ بِخِلَافِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ لَمْ يَأْمُرْهُمْ ﷺ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَعْرُوفِينَ بِأَعْيَانِهِمْ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ زِيٌّ عَالٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا وَجَبَ التَّمَيُّزُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِمَا فِيهِ صَغَارٌ لَا إعْزَازٌ؛ لِأَنَّ إذْلَالَهُمْ لَازِمٌ بِغَيْرِ أَذًى مِنْ ضَرْبٍ أَوْ صَفْعٍ بِلَا سَبَبٍ يَكُونُ مِنْهُ، بَلْ الْمُرَادُ اتِّصَافُهُ بِهَيْئَةٍ وَضِيعَةٍ وَلِذَا أُمِرُوا (بِالْكَسْتِيجَاتِ) وَهُوَ خَيْطٌ فِي غِلَظِ الْأُصْبُعِ مِنْ الصُّوفِ يَشُدُّهُ فَوْقَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute