وَلِأَنَّهُ أَتَى بِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ مَعَهُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ عَنْ طَوْعٍ دَلِيلٌ عَلَى الِاعْتِقَادِ عَلَى مَا عُرِفَ وَالْحَقَائِقُ لَا تُرَدُّ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ سَعَادَةٌ أَبَدِيَّةٌ وَنَجَاةٌ عَقْبَاوِيَّةٌ، وَهِيَ مِنْ أَجَلِّ الْمَنَافِعِ وَهُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ، ثُمَّ يُبْتَنَى عَلَيْهِ غَيْرُهَا فَلَا يُبَالِي بِشَوْبِهِ.
وَأَمَّا مَا عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَةَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُوَافِقْهُ أَحَدٌ عَلَيْهِ سِوَى رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ لَمْ تَصِحَّ، بَلْ الصَّحِيحُ عَنْهُ أَنَّهُ أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: اسْتِقْرَاءُ الْحَالِ يُبْطِلُ رِوَايَةَ الْخَمْسَ عَشْرَةَ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ يَوْمَ الْبَعْثِ ثَمَانِ سِنِينَ فَقَدْ عَاشَ مَعَهُ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَبَقِيَ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ نَحْوَ ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَهَذِهِ مُقَارَبَةُ السِّتِّينَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي مِقْدَارِ عُمُرِهِ. ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُتِلَ عَلِيٌّ ﵁ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. قَالَ: فَمَتَى قُلْنَا إنَّهُ كَانَ يَوْمَ إسْلَامِهِ ابْنَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً صَارَ عُمُرُهُ ثَمَانِيًا وَسِتِّينَ وَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: أَسْلَمَ عَلِيٌّ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄: «دَفَعَ النَّبِيُّ ﷺ الرَّايَةَ إلَى عَلِيٍّ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً». وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. قَالَ الذَّهَبِيُّ: هَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ أَسْلَمَ وَلَهُ أَقَلُّ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، بَلْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ أَوْ ثَمَانِ سِنِينَ. وَمَا ذَكَرَ الثَّعَالِبِيُّ وَغَيْرُهُ فِي اتِّفَاقِ الْأَعْمَارِ مِنْ أَنَّ كُلًّا مِنْ النَّبِيِّ ﷺ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ ﵃ عَاشَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً يَقْتَضِي أَنَّ عُمُرَهُ حِينَ أَسْلَمَ كَانَ عَشْرَ سِنِينَ وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ الْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ. قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: وَلِأَنَّهُ ﷺ «عَرَضَ الْإِسْلَامَ عَلَى ابْنِ صَيَّادٍ وَهُوَ غُلَامٌ لَمْ يَبْلُغْ»، وَقَدْ يُقَالُ تَصْحِيحُهُ ﷺ إسْلَامَهُ إنْ أُرِيدَ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ فَمُسْلِمٌ، وَكَلَامُنَا فِي تَصْحِيحِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ حَتَّى لَا يَرِثَ أَقَارِبَهُ الْكُفَّارَ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ ﷺ صَحَّحَهُ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ بَلْ فِي الْعِبَادَاتِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي مَعَهُ عَلَى مَا هُوَ ثَابِتٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
نَعَمْ لَوْ نُقِلَ مِنْ قَوْلِهِ ﷺ صَحَّحْت إسْلَامَهُ أَمْكَنَ أَنْ يُصْرَفَ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْجِهَتَيْنِ، لَكِنْ لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ، وَقَدْ أَوْرَدَ هَذَا السُّؤَالَ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْوَجْهِ وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا هُوَ الْوَجْهُ. قِيلَ: وَمِنْ أَقْبَحِ الْقَبَائِح أَنْ لَا يُسَمَّى مُسْلِمًا مَعَ اشْتِغَالِهِ بِتَعَلُّمِ الْقُرْآنِ وَتَعْلِيمِهِ وَالصَّلَاةِ. قِيلَ: وَالْعَجَبُ مِنْ الشَّافِعِيِّ كَيْفَ يُصَحِّحُ اخْتِيَارَهُ لِأَحَدِ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْفُرْقَةِ مَعَ ظُهُورِ أَنَّهُ إنَّمَا يَخْتَارُ مَنْ يُطْلِقُ عَنَانَهُ إلَى أَهْوِيَتِهِ مِنْ اللَّعِبِ وَغَيْرِهِ وَلَا يُصَحِّحُ اخْتِيَارَهُ الْمَقْطُوعَ بِخِيرَتِهِ. فَإِنْ قَالَ هُوَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، قُلْنَا: إنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ إذَا قُلْنَا بِوُجُوبِهِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ كَمَا عَنْ أَبِي مَنْصُورٍ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَأَنَّهُ يَقَعُ مُسْقِطًا لِلْوَاجِبِ، لَكِنَّا إنَّمَا نَخْتَارُ أَنَّهُ يَصِحُّ لِتَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ الدُّنْيَوِيَّةُ وَالْأُخْرَوِيَّةُ، ثُمَّ إذَا بَلَغَ لَزِمَهُ فَلَوْ ارْتَدَّ بَعْدَ الْبُلُوغِ أُجْبِرَ عَلَى الْإِسْلَامِ بِالْحَبْسِ لَا بِالْقَتْلِ بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ بَالِغًا. وَعِنْدَ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ يُقْتَلُ إنْ لَمْ يَعُدْ إلَى الْإِسْلَامِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَلِأَنَّهُ أَتَى بِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ مَعَهُ) وَالتَّصْدِيقُ الْبَاطِنِيُّ يُحْكَمُ بِهِ لِلْإِقْرَارِ الدَّالِّ عَلَيْهِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ تَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْبَاطِنِ بِهِ، وَإِذَا كَانَ قَدْ أَتَى بِهِ فَقَدْ دَخَلَتْ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ قَائِمَةً بِهِ فِي الْوُجُودِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لَمْ تَدْخُلْ، وَلَمْ يَتَّصِفْ مَعَ الدُّخُولِ وَالِاتِّصَافِ، فَإِنْ قَالَ: الْإِيمَانُ الَّذِي أَنْفِيهِ مِنْهُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ، فَمَا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ لَا أَنْفِيهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute