كَمَا قُلْنَا فِي الْإِسْلَامِ، إلَّا أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ لِمَا فِيهِ مِنْ النَّفْعِ لَهُ، وَلَا يُقْتَلُ؛ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ، وَالْعُقُوبَاتُ مَوْضُوعَةٌ عَنْ الصِّبْيَانِ مَرْحَمَةً عَلَيْهِمْ. وَهَذَا فِي الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ.
مِثْلُهُ فِي الرِّدَّةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ النَّفْعِ وَفِي الرِّدَّةِ مِنْ الضَّرَرِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُ قَبُولُ الْهِبَةِ وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الْهِبَةُ؟. الْجَوَابُ أَنَّ الْحَقِيقَةَ الدَّاخِلَةَ مِنْهُ فِي الْوُجُودِ إذَا كَانَتْ مِمَّا يُقْطَعُ فِيهِ بِالْعِلْمِ أَوْ الْجَهْلِ فَهِيَ الَّتِي لَا يُمْكِنُ عَدَمُ اعْتِبَارِهَا كَالْإِيمَانِ وَالرِّدَّةِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ عَارِفًا إذَا عُلِمَ جَهْلُهُ بِالْكُفْرِ وَلَا جَاهِلًا إذَا عُلِمَ عِلْمُهُ بِالْإِيمَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهَا بَعْدَ وُجُودِهَا، وَصَارَ كَمَا إذَا صَامَ بِنِيَّةٍ يُجْعَلُ صَائِمًا شَرْعًا، فَلَوْ أَكَلَ جُعِلَ مُفْطِرًا وَلَمْ يُجْعَلْ صَائِمًا، وَكَذَا إذَا صَلَّى ثُمَّ أَفْسَدَهَا، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مِمَّا لَا يُقْطَعُ فِيهَا بِذَلِكَ بَلْ هِيَ دَائِرَةٌ بَيْنَ عِلْمِهِ بِالْمَصْلَحَةِ وَجَهْلِهِ بِهَا فَلَا تَصِحُّ مِنْهُ؛ لِأَنَّا لَمْ نَتَيَقَّنْ بِالْمَصْلَحَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَذَلِكَ كَالْهِبَةِ فَإِنَّهُ جَازَ فِيهِ كَوْنُهُ عَلِمَ الْمَصْلَحَةَ لِمَا عَلِمَهُ مِنْ حُسْنِ الْجَزَاءِ عَلَيْهَا بِالضَّعْفِ، وَجَازَ كَوْنُهُ جَاهِلًا فِي ذَلِكَ بِأَنْ لَمْ تَكُنْ جَالِبَةً لِذَلِكَ فَمَنَعْنَاهَا، بِخِلَافِ الْقَبُولِ فَإِنَّا عَلِمْنَا عِلْمَهُ بِالْمَصْلَحَةِ فَلَا نَجْعَلُهُ جَاهِلًا بِهَا.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحَقَائِقَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِثُبُوتِهَا لَا تُرَدُّ لَزِمَ ضَرَرُهَا بِالضَّرُورَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّا اتَّفَقْنَا عَلَى جَعْلِهِ مُرْتَدًّا إذَا ارْتَدَّ أَبَوَاهُ وَلَحِقَا بِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ (قَوْلُهُ: إلَّا أَنَّهُ) أَيْ الصَّبِيَّ الْمُرْتَدَّ (يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ لِمَا فِيهِ مِنْ النَّفْعِ) الْمُتَيَقَّنِ وَدَفْعِ أَعْظَمِ الْمَضَارِّ (وَلَا يُقْتَلُ) وَهَذِهِ رَابِعَةُ أَرْبَعِ مَسَائِلَ لَا يُقْتَلُ فِيهَا الْمُرْتَدُّ: إحْدَاهَا الَّذِي كَانَ إسْلَامُهُ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ إذَا بَلَغَ مُرْتَدًّا؛ فَفِي الْقِيَاسِ يُقْتَلُ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُقْتَلُ؛ لِأَنَّ إسْلَامَهُ لَمَّا ثَبَتَ تَبَعًا لِغَيْرِهِ صَارَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَتْلِ عَنْهُ، وَإِنْ بَلَغَ مُرْتَدًّا. الثَّانِيَةُ إذَا أَسْلَمَ فِي صِغَرِهِ ثُمَّ بَلَغَ مُرْتَدًّا فَفِي الْقِيَاسِ يُقْتَلُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُقْتَلُ لِقِيَامِ الشُّبْهَةِ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي صِحَّةِ إسْلَامِهِ فِي الصِّغَرِ. وَالثَّالِثَةُ إذَا ارْتَدَّ فِي صِغَرِهِ. وَالرَّابِعَةُ الْمُكْرَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ إذَا ارْتَدَّ لَا يُقْتَلُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِإِسْلَامِهِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ قِيَامَ السَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ الِاعْتِقَادِ فَيَصِيرُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَتْلِ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَوْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، ذَكَرَ الْكُلَّ فِي الْمَبْسُوطِ.
وَلَهَا خَامِسَةٌ وَهُوَ اللَّقِيطُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَحْكُومٌ بِإِسْلَامِهِ، وَلَوْ بَلَغَ كَافِرًا أُجْبِرَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يُقْتَلُ كَالْمَوْلُودِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إذَا بَلَغَ كَافِرًا. وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي وَجْهِ عَدَمِ قَتْلِهِ: (لِأَنَّهُ) أَيْ الْقَتْلَ (عُقُوبَةٌ وَالْعُقُوبَاتُ مَوْضُوعَةٌ عَنْ الصِّبْيَانِ مَرْحَمَةٌ عَلَيْهِمْ) وَبَيَّنَ أَنَّ الْكَلَامَ كُلَّهُ فِي الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ. وَفِي الْمَبْسُوطِ زَادَ كَوْنَهُ بِحَيْثُ يُنَاظِرُ وَيَفْهَمُ وَيُفْحَمُ.
وَاعْتَرَضَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشَّارِحِينَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ مَرْحَمَةٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ يُعَذَّبُ فِي الْآخِرَةِ مُخَلَّدًا فَلَيْسَ بِمَرْحُومٍ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ الْأَسْرَارِ وَالْمَبْسُوطِ وَجَامِعِ التُّمُرْتَاشِيِّ ﵀، وَأَحَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ إلَى التَّبْصِرَةِ، فَالْأَوْلَى فِي التَّعْلِيلِ مَا فِي الْمَبْسُوطِ مِنْ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي صِحَّةِ إسْلَامِهِ. وَلَفْظُهُ فِي الْمَبْسُوطِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فَإِذَا حُكِمَ بِصِحَّةِ رِدَّتِهِ بَانَتْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute