أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُكْرَهُ بَيْعُ الْمَعَازِفِ وَلَا يُكْرَهُ بَيْعُ الْخَشَبِ، وَعَلَى هَذَا الْخَمْرُ مَعَ الْعِنَبِ.
تَحْدُثُ فِيهِ، وَنَظِيرُهُ كَرَاهَةُ بَيْعِ الْمَعَازِفِ؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ تُقَامُ بِهَا عَيْنِهَا (وَلَا يُكْرَهُ بَيْعُ الْخَشَبِ) الْمُتَّخَذَةِ هِيَ مِنْهُ (وَعَلَى هَذَا بَيْعُ الْخَمْرِ) لَا يَصِحُّ وَيَصِحُّ بَيْعُ الْعِنَبِ. وَالْفَرْقُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَا ذَكَرْنَا. وَقِيلَ الْفَرْقُ الصَّحِيحُ أَنَّ الضَّرَرَ هُنَا يَرْجِعُ إلَى الْعَامَّةِ وَهُنَاكَ يَرْجِعُ إلَى الْخَاصَّةِ، ذَكَرَهُ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ.
[فُرُوعٌ] إذَا طَلَبَ أَهْلُ الْبَغْيِ الْمُوَادَعَةَ أُجِيبُوا إلَيْهَا إذَا كَانَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ يَحْتَاجُونَ إلَى الْمُوَادَعَةِ لِحِفْظِ قُوَّتِهِمْ وَالِاسْتِزَادَةِ مِنْ التَّقْوَى عَلَيْهِمْ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَلَيْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، وَمِثْلُهُ فِي الْمُرْتَدِّينَ إلَّا أَنَّهُمْ إذَا أَخَذُوا مَلَكُوا ثُمَّ يُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَإِذَا تَابَ أَهْلُ الْبَغْيِ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ لَا يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوا. وَفِي الْمَبْسُوطِ: رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: أُفْتِيهِمْ بِأَنْ يَضْمَنُوا مَا أَتْلَفُوا مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَلَا أُلْزِمُهُمْ بِذَلِكَ فِي الْحُكْمِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَقِدِينَ الْإِسْلَامَ وَقَدْ ظَهَرَ لَهُمْ خَطَؤُهُمْ، إلَّا أَنَّ وِلَايَةَ الْإِلْزَامِ كَانَتْ مُنْقَطِعَةً لِلْمَنَعَةِ فَيُفْتَوْا بِهِ. وَلَوْ اسْتَعَانَ أَهْلُ الْبَغْيِ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَاتَلُوا مَعَهُمْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُمْ نَقْضًا لِلْعَهْدِ، كَمَا أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ لَيْسَ نَقْضًا لِلْإِيمَانِ، فَاَلَّذِينَ انْضَمُّوا إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُلْتَزِمِينَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَأَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الدَّارِ فَحُكْمُهُمْ حُكْمُ الْبُغَاةِ.
وَإِذَا وَقَعَتْ الْمُوَادَعَةُ فَأَعْطَى كُلُّ فَرِيقٍ رَهْنًا عَلَى أَنَّ أَيَّهمَا غَدَرَ يَقْتُلُ الْآخَرُونَ الرَّهْنَ فَغَدَرَ أَهْلُ الْبَغْيِ وَقَتَلُوا الرَّهْنَ لَا يَحِلُّ لِأَهْلِ الْعَدْلِ قَتْلُ الرَّهْنِ، بَلْ يَحْبِسُونَهُمْ حَتَّى يَهْلِكَ أَهْلُ الْبَغْيِ أَوْ يَتُوبُوا؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا آمَنِينَ بِالْمُوَادَعَةِ أَوْ بِإِعْطَائِنَا الْأَمَانَ لَهُمْ حِينَ أَخَذْنَاهُمْ رَهْنًا، وَالْغَدْرُ مِنْ غَيْرِهِمْ لَا يُؤَاخَذُونَ بِهِ لَكِنَّهُمْ يُحْبَسُونَ مَخَافَةَ أَنْ يَرْجِعُوا إلَى فِئَتِهِمْ، وَكَذَا إذَا كَانَ هَذَا الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ حُبِسَ رَهْنُهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا، فَإِنْ أَبَوْا جُعِلُوا ذِمَّةً وَوُضِعَتْ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ؛ لِأَنَّهُمْ حَصَلُوا فِي أَيْدِينَا آمَنِينَ.
وَحُكِيَ أَنَّ الْمَنْصُورَ كَانَ اُبْتُلِيَ بِهِ مَعَ أَهْلِ الْمُوصِلِ، ثُمَّ إنَّهُمْ غَدَرُوا فَقَتَلُوا رَهْنَهُ، فَجَمَعَ الْعُلَمَاءَ يَسْتَشِيرُهُمْ فَقَالُوا: يُقْتَلُونَ كَمَا شَرَطُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَفِيهِمْ أَبُو حَنِيفَةَ سَاكِتٌ، فَقَالَ لَهُ: مَا تَقُولُ؟ قَالَ لَيْسَ لَك ذَلِكَ، فَإِنَّك شَرَطْتَ لَهُمْ مَا لَا يَحِلُّ وَشَرَطُوا لَك مَا لَا يَحِلُّ، كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ فَأَغْلَظَ عَلَيْهِ الْقَوْلَ وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ عِنْدِهِ وَقَالَ: مَا دَعَوْتُك لِشَيْءٍ إلَّا أَتَيْتنِي بِمَا أَكْرَهُ، ثُمَّ جَمَعَهُمْ مِنْ الْغَدِ وَقَالَ: قَدْ تَبَيَّنَ لِي أَنَّ الصَّوَابَ مَا قُلْت فَمَاذَا نَصْنَعُ بِهِمْ. قَالَ: سَلْ الْعُلَمَاءَ، فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُوضَعُ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ، قَالَ: لِمَ وَهُمْ لَا يَرْضَوْنَ بِذَلِكَ. قَالَ: لِأَنَّهُمْ رَضُوا بِالْمُقَامِ فِي دَارِنَا عَلَى التَّأْبِيدِ، وَالْكَافِرُ إذَا رَضِيَ بِذَلِكَ تُوضَعُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ، فَاسْتَحْسَنَ قَوْلَهُ وَاعْتَذَرَ إلَيْهِ.
وَإِذَا أَمَّنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ جَازَ أَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَعْلَى شِقَاقًا مِنْ الْكَافِرِ، وَهُنَاكَ يَجُوزُ فَكَذَا هُنَا؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى مُنَاظَرَتِهِ لِيَتُوبَ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ مَا لَمْ يَأْمَنْ كُلٌّ مِنْ الْآخَرِ، وَمِنْهُ أَنْ يَقُولَ: لَا بَأْسَ عَلَيْك وَلَا يَجُوزُ أَمَانُ الذِّمِّيِّ إذَا كَانَ يُقَاتِلُ مَعَ أَهْلِ الْبَغْيِ.
وَلَوْ ظَهَرَ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى بَلَدٍ فَوَلَّوْا فِيهِ قَاضِيًا مِنْ أَهْلِهِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ صَحَّ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ الْحُدُودَ وَالْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ بِالْعَدْلِ، فَإِنْ كَتَبَ هَذَا الْقَاضِي كِتَابًا إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ بِحَقٍّ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مِصْرِهِ بِشَهَادَةِ مَنْ شَهِدَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute