اللَّقِيطُ سُمِّيَ بِهِ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ لِمَا أَنَّهُ يُلْقَطُ. وَالِالْتِقَاطُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَائِهِ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ ضَيَاعُهُ فَوَاجِبٌ. قَالَ (اللَّقِيطُ حُرٌّ)؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي بَنِي آدَمَ إنَّمَا هُوَ الْحُرِّيَّةُ، وَكَذَا الدَّارُ دَارُ الْأَحْرَارِ؛ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ
(وَنَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ) هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ
اللُّقَطَةِ لِتَعَلُّقِهِ بِالنَّفْسِ وَالْمُتَعَلِّقُ بِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُتَعَلِّقِ بِالْمَالِ. وَاللَّقِيطُ لُغَةً: مَا يُلْقَطُ: أَيْ يُرْفَعُ مِنْ الْأَرْضِ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، سُمِّيَ بِهِ الْوَلَدُ الْمَطْرُوحُ خَوْفًا مِنْ الْعَيْلَةِ أَوْ مِنْ تُهْمَةِ الزِّنَا بِهِ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ آيِلٌ إلَى أَنْ يُلْتَقَطَ فِي الْعَادَةِ كَالْقَتِيلِ فِي قَوْلِهِ ﷺ «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» (وَالِالْتِقَاطُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَاءِ نَفْسٍ مُسْلِمَةٍ) إذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ ضَيَاعُهُ (فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ ضَيَاعُهُ كَانَ وَاجِبًا) وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَبَاقِي الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، إلَّا إذَا خَافَ هَلَاكَهُ فَفَرْضُ عَيْنٍ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلِ الْوُجُوبِ قَبْلَ الْخَوْفِ. نَعَمْ إذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ ضَيَاعُهُ أَوْ هَلَاكُهُ فَكَمَا قَالُوا، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْوُجُوبِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَا الْوُجُوبُ بِاصْطِلَاحِنَا؛ لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ وَهُوَ إلْزَامُ الْتِقَاطِهِ إذَا خِيفَ هَلَاكُهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَالثَّابِتُ إلْزَامُهُ بِقَطْعِيِّ فَرْضٍ (قَوْلُهُ: اللَّقِيطُ حُرٌّ وَلَوْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ عَبْدًا) أَيْ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ حَتَّى يُحَدَّ قَاذِفُهُ، وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ كَالْجِنَايَةِ عَلَى الْأَحْرَارِ، وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُ أُمِّهِ؛ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ حُرِّيَّتَهَا، وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ مَعَ احْتِمَالِ السُّقُوطِ، وَإِنَّمَا حُكْمُ الشَّرْعِ فِيهِ بِالْحُرِّيَّةِ (لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي بَنِي آدَمَ الْحُرِّيَّةُ)؛ لِأَنَّهُمْ أَوْلَادُ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَإِنَّمَا عَرَضَ الرِّقُّ بِعُرُوضِ الْكُفْرِ لِبَعْضِهِمْ، فَمَا لَمْ يَتَيَقَّنْ بِالْعَارِضِ لَا يُحْكَمُ بِهِ (وَكَذَا الدَّارُ دَارُ الْأَحْرَارِ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ الْغَالِبَ) وَالْغَالِبَ فِي جَمِيعِ أَقْطَارِ الدُّنْيَا الْأَحْرَارُ.
(قَوْلُهُ: وَنَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ) أَيْ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ. وَأَصْلُهُ مَا رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ سُنَيْنٍ أَبِي جَمِيلَةَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ أَنَّهُ وَجَدَ مَنْبُوذًا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: فَجِئْت بِهِ إلَى عُمَرَ فَقَالَ: مَا حَمَلَك عَلَى أَخْذِ هَذِهِ النَّسَمَةِ؟ فَقَالَ: وَجَدْتهَا ضَائِعَةً فَأَخَذْتهَا، فَقَالَ لَهُ عَرِيفُهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ إنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ، قَالَ كَذَلِكَ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ اذْهَبْ بِهِ فَهُوَ حُرٌّ وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ. وَعَنْ مَالِكٍ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَغَيْرُ الشَّافِعِيِّ يَرْوِيهِ عَنْ مَالِكٍ وَيَقُولُ فِيهِ: وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ انْتَهَى.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَنْبَأَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ: حَدَّثَنِي أَبُو جَمِيلَةَ أَنَّهُ وَجَدَ مَنْبُوذًا عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ﵁ فَأَتَاهُ بِهِ فَاتَّهَمَهُ عُمَرُ ﵁، فَأُثْنِيَ عَلَيْهِ خَيْرًا، فَقَالَ عُمَرُ ﵁: هُوَ حُرٌّ وَوَلَاءُهُ لَك وَنَفَقَتُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. وَتُهْمَةُ عُمَرَ دَلَّ عَلَيْهَا مَا فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْهُ فِي حَدِيثِ أَبِي جَمِيلَةَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا، وَهُوَ مَثَلٌ لِمَا يَكُونُ ظَاهِرُهُ خِلَافَ بَاطِنِهِ. وَأَوَّلُ مَنْ قَالَتْهُ الزَّبَّاءُ. وَمَا قِيلَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُلْتَقِطَ يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ بِهِ إلَى الْإِمَامِ أَوَّلًا لَيْسَ بِلَازِمٍ. نَعَمْ مَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِالْإِنْفَاقِ وَقَصَدَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كَمَا فَعَلَ أَبُو جَمِيلَةَ يَحْتَاجُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ إلَيْهِ، وَإِذَا جَاءَ بِهِ إلَى الْإِمَامِ لَا يُصَدِّقُهُ فَيُخْرِجُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ نَفَقَتَهُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً عَلَى الِالْتِقَاطِ؛ لِأَنَّهُ عَسَاهُ ابْنُهُ وَلِذَا قَالَ عُمَرُ ﵁: عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا.
وَالْوَجْهُ أَنَّهُ لَا يُتَوَقَّفُ عَلَى الْبَيِّنَةِ إلَى مَا يُرَجِّحُ صِدْقَهُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ عُمَرَ لَمَّا قَالَ عَرِيفُهُ إنَّهُ رَجُلٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute