وَلِأَنَّ إيجَابَ الْجُعْلِ أَصْلُهُ حَامِلٌ عَلَى الرَّدِّ إذْ الْحِسْبَةُ نَادِرَةٌ فَتَحْصُلُ صِيَانَةُ أَمْوَالِ النَّاسِ وَالتَّقْدِيرُ بِالسَّمْعِ وَلَا سَمْعَ فِي الضَّالِّ فَامْتَنَعَ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى صِيَانَةِ الضَّالِّ دُونَهَا إلَى صِيَانَةِ الْآبِقِ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَارَى وَالْآبِقُ يَخْتَفِي، وَيُقَدَّرُ الرَّضْخُ فِي الرَّدِّ عَمَّا دُونَ السَّفَرِ بِاصْطِلَاحِهِمَا أَوْ يُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي وَقِيلَ تُقَسَّمُ الْأَرْبَعُونَ عَلَى الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ إذْ هِيَ أَقَلُّ مُدَّةِ السَّفَرِ.
قَالَ (وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ يُقْضَى لَهُ بِقِيمَتِهِ إلَّا دِرْهَمًا) قَالَ ﵁: وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِهَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ فَلَا يَنْقُصُ عَنْهَا وَلِهَذَا
شِقَّهُ إلَى شِقِّهِ، وَلِأَنَّ نَصْبَ الْمَقَادِيرِ لَا يُعْرَفُ إلَّا سَمَاعًا فَكَانَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَى الصَّحَابَةِ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ، وَأَصَحُّهَا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَهُوَ بَعْدَ كَوْنِهِ مُثْبَتًا لِلزِّيَادَةِ وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ رَاجِحٌ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا (وَلِأَنَّ إيجَابَ أَصْلِ الْجُعْلِ حَامِلٌ عَلَى الرَّدِّ إذْ الْحِسْبَةُ) وَهُوَ رَدُّهُ احْتِسَابًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ مَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ التَّعَبِ وَالنَّصَبِ نَادِرَةٌ فَشُرِعَ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِعَةِ إلَى الْعِبَادِ مِنْ صِيَانَةِ أَمْوَالِهِمْ عَلَيْهِمْ (وَتَقْدِيرُ الْجُعْلِ) إنَّمَا يُدْرَى (بِالسَّمْعِ وَلَا سَمْعَ فِي الضَّالِّ فَامْتَنَعَ) إلْحَاقُهُ بِهِ قِيَاسًا وَدَلَالَةً أَيْضًا لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى صِيَانَةِ الضَّالِّ فِي رَدِّهِ دُونَهَا فِي رَدِّ الْآبِقِ لِمَا فِي رَدِّهِ مِنْ زِيَادَةِ التَّحَفُّظِ فِي حِفْظِهِ وَالِاحْتِيَاطُ فِي مُرَاعَاتِهِ كَيْ لَا يَأْبِقَ ثَانِيًا مِمَّا لَيْسَ فِي رَدِّ الضَّالِّ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَوْ كَانَ الْآبِقُ لِرَجُلَيْنِ فَصَاعِدًا فَالْجُعْلُ عَلَى قَدْرِ النَّصِيبِ، فَلَوْ كَانَ الْبَعْضُ غَائِبًا فَلَيْسَ لِلْحَاضِرِ أَنْ يَأْخُذَهُ حَتَّى يُعْطِيَ تَمَامَ الْجُعْلِ وَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا بِنَصِيبِ الْغَائِبِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ فِيمَا يُعْطِيهِ لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى نَصِيبِهِ إلَّا بِهِ، هَذَا كُلُّهُ إذَا رَدَّهُ بِلَا اسْتِعَانَةٍ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِآخَرَ: إنَّ عَبْدِي قَدْ أَبَقَ فَإِذَا وَجَدْته خُذْهُ فَوَجَدَهُ فَرَدَّهُ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ، لِأَنَّ مَالِكَهُ اسْتَعَانَ بِهِ وَوَعَدَهُ الْإِعَانَةَ وَالْمُعِينُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا.
وَقَوْلُهُ (وَمَا دُونَهُ فِيمَا دُونَهُ) أَيْ أَوْجَبْنَا مَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ فِيمَا دُونَ السَّفَرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا لَمَّا عَرَّفْنَا إيجَابَ الْجُعْلِ بِكُلِّ مَنْ نُقِلَ عَنْهُ مِقْدَارٌ وَذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبُ، فَإِذَا حَمَلْنَا بَعْضَهُ عَلَى مَا دُونَ السَّفَرِ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا بِالْإِيجَابِ فِيمَا دُونَ السَّفَرِ، لِأَنَّهُ مَا ذُكِرَ ذَلِكَ إلَّا عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ (قَوْلُهُ وَيُقَدَّرُ الرَّضْخُ فِي الرَّدِّ عَمَّا دُونَ السَّفَرِ بِاصْطِلَاحِهِمَا) أَيْ الْمَالِكِ وَالرَّادِّ أَوْ يُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي يُقَدِّرُهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَاهُ، قَالُوا: وَهَذَا هُوَ الْأَشْبَهُ بِالِاعْتِبَارِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ (تُقْسَمُ الْأَرْبَعُونَ عَلَى الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ) لِكُلِّ يَوْمٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثٌ (قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ يَقْضِي لَهُ بِقِيمَتِهِ إلَّا دِرْهَمًا) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ آخِرًا (لَهُ أَرْبَعُونَ) وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ دِرْهَمًا وَاحِدًا، وَلَمْ يُذْكَرْ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي عَامَّةِ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَذُكِرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ مَعَ مُحَمَّدٍ وَجْهُ أَبِي يُوسُفَ (أَنَّ التَّقْدِيرَ بِهَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ) أَيْ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعُمَرَ وَوَجَبَ اتِّبَاعُهُمَا، وَالْمُرَادُ بِالنَّصِّ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ مُخَالَفَةِ مَنْ سِوَاهُمَا لِوُجُوبِ حَمْلِ قَوْلِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute