للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَأَمَّا شِرْكَةُ الْمُفَاوَضَةِ فَهِيَ أَنْ يَشْتَرِكَ الرَّجُلَانِ فَيَتَسَاوَيَانِ فِي مَالِهِمَا وَتَصَرُّفِهِمَا وَدَيْنِهِمَا) لِأَنَّهَا شِرْكَةٌ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ التِّجَارَاتِ يُفَوِّضُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمْرَ الشِّرْكَةِ إلَى صَاحِبِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ إذْ هِيَ مِنْ الْمُسَاوَاةِ، قَالَ قَائِلُهُمْ: لَا يُصْلِحُ النَّاسَ فَوْضَى لَا سُرَاةَ لَهُمْ وَلَا سُرَاةَ إذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا أَيْ مُتَسَاوِيِينَ.

فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْقِيقِ الْمُسَاوَاةِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً

بِالْأَعْمَالِ، وَشِرْكَةٌ بِالْوُجُوهِ.

وَكُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ: مُفَاوَضَةٍ وَعِنَانٍ، وَسَيَأْتِي الْبَيَانُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (قَوْلُهُ فَأَمَّا شِرْكَةُ الْمُفَاوَضَةِ فَهِيَ أَنْ يَشْتَرِكَ الرَّجُلَانِ فَيَتَسَاوَيَانِ فِي مَالِهَا وَتَصَرُّفِهِمَا وَدَيْنِهِمَا) وَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا كَفِيلًا عَنْ الْآخَرِ فِي كُلِّ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ عُهْدَةِ مَا يَشْتَرِيه كَمَا أَنَّهُ وَكِيلٌ عَنْهُ (لِأَنَّهَا شِرْكَةٌ عَامَّةٌ) يُفَوِّضُ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ عَلَى الْعُمُومِ (فِي التِّجَارَاتِ) وَالتَّصَرُّفَاتِ لِأَنَّ الْفَوْضَةَ الشِّرْكَةُ وَالْمُفَاوَضَةَ الْمُسَاوَاةُ، فَلَزِمَ مُطْلَقُ الْمُسَاوَاةِ فِيمَا يُمْكِنُ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ فَعَمَّ التَّسَاوِي فِي ذَلِكَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ إذْ هِيَ مِنْ الْمُسَاوَاةِ تَسَاهُلٌ لِأَنَّهَا مَادَّةٌ أُخْرَى فَكَيْفَ يَتَحَقَّقُ الِاشْتِقَاقُ، بَلْ هِيَ مِنْ التَّفْوِيضِ أَوْ الْفَوْضِ الَّذِي مِنْهُ فَاضَ الْمَاءُ: إذَا عَمَّ وَانْتَشَرَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ مَعْنَاهَا الْمُسَاوَاةُ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ الْأَفْوَهِ الْأَوْدِيِّ:

لَا يُصْلِحُ النَّاسَ فَوْضَى لَا سُرَاةَ لَهُمْ … وَلَا سُرَاةَ إذَا جِهَالُهُمْ سَادُوا

وَبَعْدَهُ:

إذَا تَوَلَّى سُرَاةُ النَّاسِ أَمْرَهُمْ … نَمَا عَلَى ذَاكَ أَمْرُ الْقَوْمِ وَازْدَادُوا

وَقِيلَ بَعْدَهُ:

تُهْدَى الْأُمُورُ بِأَهْلِ الرَّأْيِ مَا صَلُحَتْ … فَإِنْ تَوَلَّتْ فَبِالْجُهَّالِ يَنْقَادُوا

وَمَعْنَى الْبَيْتِ: إذَا كَانَ النَّاسُ مُتَسَاوِينَ لَا كَبِيرَ لَهُمْ وَلَا سَيِّدَ يَرْجِعُونَ إلَيْهِ بَلْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مُسْتَقِلًّا يُنَفِّذُ مُرَادَهُ كَيْفَ كَانَ تَحَقَّقَتْ الْمُنَازَعَةُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ وَالسُّرَاةُ جَمْعُ سَرَى، وَهُوَ السَّيِّدُ، وَجَعَلَهُ صَاحِبُ الْمُفَصَّلِ اسْمَ جَمْعٍ لَهُ كَرَكْبٍ فِي رَاكِبٍ.

وَالسَّرِيُّ فَعِيلٌ جُمِعَ عَلَى فَعِلَة بِالتَّحْرِيكِ، وَأَصْلُهُ سَرْوَة تَحَرَّكَتْ الْوَاوُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا قُلِبَتْ أَلِفًا فَصَارَ سُرَاةَ، وَأَصْلُ سَرَى سَرَيَو اجْتَمَعَتَا وَسُبِقَتْ إحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ فَقُلِبَتْ الْوَاوُ يَاءً ثُمَّ أُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ،

وَسَيَأْتِي وَجْهُ الْمُسَاوَاةِ (فَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ ابْتِدَاءً) عِنْدَ عَقْدِ الشِّرْكَةِ (وَانْتِهَاءً) أَيْ فِي مُدَّةِ الْبَقَاءِ لِأَنَّ عَقْدَ الشِّرْكَةِ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ، فَإِنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَفْسَخَهُ إذَا شَاءَ فَكَانَ لِبَقَائِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ، فَمَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ مِنْ التَّفَاوُتِ فِي الْمَالِ يَمْنَعُ بَقَاءَهُ؛ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَالَانِ سَوَاءً يَوْمَ الْعَقْدِ ثُمَّ ازْدَادَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الشِّرَاءِ فَسَدَتْ الْمُفَاوَضَةُ وَصَارَتْ عِنَانًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ زَادَ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِالْمَالَيْنِ لِأَنَّ الشِّرْكَةَ انْتَقَلَتْ إلَى الْمُشْتَرِي فَإِنَّمَا تَغَيَّرَ سِعْرُ رَأْسِ الْمَالِ بَعْدَ خُرُوجِهِ عَنْ الشِّرْكَةِ فِيهِ.

وَلَوْ اشْتَرَيَا بِجَمِيعِ مَالِ أَحَدِهِمَا ثُمَّ فَضَلَ مَالُ الْآخَرِ فَفِي الْقِيَاسِ تَفْسُدُ الْمُفَاوَضَةُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا تَفْسُدُ لِأَنَّ الشِّرَاءَ بِالْمَالَيْنِ جَمِيعًا قَلَّ مَا يَتَّفِقُ فَيَلْزَمُ بِاشْتِرَاطِهِ حَرَجٌ، وَلِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ قَائِمَةٌ مَعْنًى لِأَنَّ الْآخَرَ لَمَّا مَلَكَ نِصْفَ الْمُشْتَرِي صَارَ نِصْفُ الثَّمَنِ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ لِصَاحِبِهِ وَنِصْفُ مَا لَمْ يَسْتَحِقُّ بِهِ لِصَاحِبِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ اتِّحَادُهُمَا صِفَةً، فَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ سُودٌ وَلِلْآخَرِ مِثْلُهَا بِيضٌ وَقِيمَتَاهُمَا

<<  <  ج: ص:  >  >>