. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مُسْتَبْقًى فِي مِلْكِ الْإِنْسَانِ، وَفِي الْوَقْفِ مَخْرَجٌ عَنْهُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَمَحَاسِنُ الْوَقْفِ ظَاهِرَةٌ وَهِيَ الِانْتِفَاعُ الدَّارُّ الْبَاقِي عَلَى طَبَقَاتِ الْمَحْبُوبِينَ مِنْ الذُّرِّيَّةِ وَالْمُحْتَاجِينَ مِنْ الْأَحْيَاءِ وَالْمَوْتَى لِمَا فِيهِ مِنْ إدَامَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ» الْحَدِيثَ، ثُمَّ يَحْتَاجُ إلَى تَفْسِيرِهِ لُغَةً وَشَرْعًا، وَبَيَانِ سَبَبِهِ وَشَرْطِهِ وَرُكْنِهِ وَحُكْمِهِ، أَمَّا تَفْسِيرُهُ لُغَةً فَالْحَبْسُ مَصْدَرُ وَقَفْت أَقِفُ حَبَسْت، قَالَ عَنْتَرَةُ:
وَوَقَفْت فِيهَا نَاقَتِي فَكَأَنَّهَا … فَدَنٌ لِأَقْضِيَ حَاجَةَ الْمُتَلَوِّمِ
وَهُوَ أَحَدُ مَا جَاءَ عَلَى فَعَلْتُهُ فَفَعَلَ يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى، وَيَجْتَمِعَانِ فِي قَوْلِك وَقَفْت زَيْدًا أَوْ الْحِمَارَ فَوَقَفَ، وَأَمَّا أَوْقَفْته بِالْهَمْزِ فَلُغَةٌ رَدِيئَةٌ.
وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ جِنِّي: أَخْبَرَنِي أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ الْمَازِنِيِّ قَالَ: يُقَالُ وَقَفْت دَارِي وَأَرْضِي وَلَا يُعْرَفُ أَوْقَفْت مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، ثُمَّ اُشْتُهِرَ الْمَصْدَرُ: أَعْنِي الْوَقْفَ فِي الْمَوْقُوفِ. فَقِيلَ هَذِهِ الدَّارُ وَقْفٌ، فَلِذَا جُمِعَ عَلَى أَفْعَالٍ فَقِيلَ وَقْفٌ وَأَوْقَافٌ كَوَقْتِ وَأَوْقَاتٍ.
وَأَمَّا شَرْعًا: فَحَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ وَالتَّصَدُّقُ بِمَنْفَعَتِهَا أَوْ صَرْفُ مَنْفَعَتِهَا عَلَى مَنْ أَحَبَّ وَعِنْدَهُمَا حَبْسُهَا لَا عَلَى مِلْكِ أَحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى
إلَخْ. وَقَدْ انْتَظَمَ هَذَا بَيَانَ حُكْمِهِ وَسَيَأْتِي تَمَامُهُ فَلَا حَاجَةَ لِإِفْرَادِهِ هُنَا أَيْضًا. وَإِنَّمَا قُلْنَا: أَوْ صَرْفُ مَنْفَعَتِهَا؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ يَصِحُّ لِمَنْ يُحِبُّ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ بِلَا قَصْدِ الْقُرْبَةِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فِي آخِرِهِ مِنْ الْقُرْبَةِ بِشَرْطِ التَّأْبِيدِ، وَهُوَ بِذَلِكَ كَالْفُقَرَاءِ وَمَصَالِحِ الْمَسْجِدِ لَكِنَّهُ يَكُونُ وَقْفًا قَبْلَ انْقِرَاضِ الْأَغْنِيَاءِ بِلَا تَصَدُّقٍ. وَسَبَبُهُ إرَادَةُ مَحْبُوبِ النَّفْسِ فِي الدُّنْيَا بَيْنَ الْأَحْيَاءِ. وَفِي الْآخِرَةِ بِالتَّقَرُّبِ إلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ جَلَّ وَعَزَّ. وَأَمَّا شَرْطُهُ فَهُوَ الشَّرْطُ فِي سَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ مِنْ كَوْنِهِ حُرًّا بَالِغًا عَاقِلًا، وَأَنْ يَكُونَ مُنَجَّزًا غَيْرَ مُعَلَّقٍ، فَلَوْ قَالَ: إنْ قَدِمَ وَلَدِي فَدَارِي صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَجَاءَ وَلَدُهُ لَا يَصِيرُ وَقْفًا، وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ، فَلَوْ وَقَفَ الذِّمِّيُّ عَلَى وَلَدِهِ وَنَسْلِهِ، وَجَعَلَ آخِرَهُ لِلْمَسَاكِينِ جَازَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ لِمَسَاكِينِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ، وَإِنْ خَصَّ فِي وَقْفِهِ مَسَاكِينَ أَهْلِ الذِّمَّةِ جَازَ، وَيُفَرَّقُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس مِنْهُمْ إلَّا إنْ خَصَّ صِنْفًا مِنْهُمْ، فَلَوْ دَفَعَ الْقَيِّمُ إلَى غَيْرِهِمْ كَانَ ضَامِنًا، وَإِنْ قُلْنَا إنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ. وَلَوْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ وَنَسْلِهِ ثُمَّ لِلْفُقَرَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ وَلَدِهِ فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الصَّدَقَةِ لَزِمَ شَرْطُهُ، وَكَذَا إنْ قَالَ مَنْ انْتَقَلَ إلَى غَيْرِ النَّصْرَانِيَّةِ خَرَجَ اُعْتُبِرَ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْخَصَّافُ. وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ تَعَقَّبَهُ غَيْرَ مُتَأَخِّرٍ يُسَمَّى الطَّرَسُوسِيُّ شَنَّعَ بِأَنَّهُ جَعَلَ الْكُفْرَ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْإِسْلَامَ سَبَبًا لِلْحِرْمَانِ، وَهَذَا لِلْبُعْدِ مِنْ الْفِقْهِ
فَإِنَّ شَرَائِطَ الْوَاقِفِ مُعْتَبَرَةٌ إذَا لَمْ تُخَالِفْ الشَّرْعَ، وَالْوَاقِفُ مَالِكٌ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ مَالَهُ حَيْثُ شَاءَ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً، وَلَهُ أَنْ يَخُصَّ صِنْفًا مِنْ الْفُقَرَاءِ دُونَ صِنْفٍ، وَإِنْ كَانَ الْوَضْعُ فِي كُلِّهِمْ قُرْبَةً، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ قُرْبَةٌ حَتَّى جَازَ أَنْ تُدْفَعَ إلَيْهِمْ صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَالْكَفَّارَاتِ عِنْدَنَا فَكَيْفَ لَا يُعْتَبَرُ شَرْطُهُ فِي صِنْفٍ دُونَ صِنْفٍ مِنْ الْفُقَرَاءِ؟ أَرَأَيْت لَوْ وَقَفَ عَلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُمْ أَلَيْسَ يُحْرَمُ مِنْهُ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ دَفَعَ الْمُتَوَلِّي إلَى الْمُسْلِمِينَ كَانَ ضَامِنًا فَهَذَا مِثْلُهُ، وَالْإِسْلَامُ لَيْسَ سَبَبًا لِلْحِرْمَانِ بَلْ الْحِرْمَانُ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ سَبَبِ تَمَلُّكِهِ هَذَا الْمَالَ، وَالسَّبَبُ هُوَ إعْطَاءُ الْوَاقِفِ الْمَالِكِ، وَشَرْطُ صِحَّةِ وَقْفِهِ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ، فَلَوْ وَقَفَ عَلَى بَيْعَةٍ مَثَلًا فَإِذَا خَرِبَتْ يَكُونُ لِلْفُقَرَاءِ كَانَ ابْتِدَاءً، وَلَوْ لَمْ يَجْعَلْ آخِرَهُ لِلْفُقَرَاءِ كَانَ مِيرَاثًا عَنْهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute