وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَجْهُولٌ. وَلَنَا قَوْلُهُ ﵊ «مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَلَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ»؛ وَلِأَنَّ الْجَهَالَةَ بِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوَافِقْهُ يَرُدُّهُ،
كَأَنْ يَقُولَ بِعْتُك شَيْئًا بِعَشَرَةٍ.
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ أَصْلًا) هُوَ فِيمَا لَمْ يُسَمِّ جِنْسَهُ قَوْلًا وَاحِدًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَأَمَّا فِيمَا سَمَّى جِنْسَهُ وَصِفَتَهُ عَلَى مَا نُقِلَ فِي شَرْحِ الْوَجِيزِ وَالْحِلْيَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَى قَوْلِهِ الْقَدِيمِ وَعَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ لَا يَجُوزُ.
وَعَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ مِثْلُ قَوْلِنَا، وَاخْتَارَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيَّةِ مِنْهُمْ الْقَفَّالُ، وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَطَلْحَةَ ﵄. وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي وَجْهِ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَبِيعَ مَجْهُولٌ مُقْتَصَرًا عَلَيْهِ: يَعْنِي وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِنَهْيِهِ ﵊ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَنَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ، وَمَا ذَلِكَ إلَّا لِلْجَهَالَةِ.
قُلْنَا: أَمَّا النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَك فَالْمُرَادُ مِنْهُ مَا لَيْسَ فِي الْمِلْكِ اتِّفَاقًا لَا مَا لَيْسَ فِي حَضْرَتِك، وَنَحْنُ شَرَطْنَا فِي هَذَا الْبَيْعِ كَوْنَ الْمَبِيعِ مَمْلُوكًا لِلْبَائِعِ فَقَضَيْنَا عُهْدَتَهُ، وَأَمَّا بَيْعُ الْغَرَرِ فَلَفْظُهُ يُفِيدُ أَنَّهُ غَيْرُهُ، وَذَلِكَ لَيْسَ إلَّا بِأَنْ يَظْهَرَ لَهُ مَا لَيْسَ فِي الْوَاقِعِ فَيُبْنَى عَلَيْهِ فَيَكُونُ مَغْرُورًا بِذَلِكَ فَيَظْهَرُ لَهُ خِلَافُهُ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ وَكَيْف كَانَ فَلَا شَكَّ بَعْدَ الْقَطْعِ، وَنَحْنُ نَقْطَعُ بِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ مَا يَلْزَمُ الضَّرَرُ فِيهِ، وَنَقْطَعُ بِأَنْ لَا ضَرَرَ فِيمَا أَجَزْنَا مِنْ ذَلِكَ إنَّمَا يَلْزَمُ الضَّرَرُ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ.
فَأَمَّا إذَا أَوْجَبْنَا لَهُ الْخِيَارَ إذَا رَآهُ فَلَا ضَرَرَ فِيهِ أَصْلًا بَلْ فِيهِ مَحْضُ مَصْلَحَةٍ وَهُوَ إدْرَاكُ حَاجَةِ كُلٍّ مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ بِهِ حَاجَةٌ وَهُوَ غَائِبٌ وَأَوْقَفْت جَوَازَ الْبَيْعِ عَلَى حُضُورِهِ وَرُؤْيَتِهِ رُبَّمَا تَفُوتُ بِأَنْ يَذْهَبَ فَيُسَاوِمُهُ فِيهِ آخَرُ رَآهُ فَيَشْتَرِيه مِنْهُ فَكَانَ فِي شَرْعِ هَذَا الْبَيْعِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ إثْبَاتِ الْخِيَارِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ مَحْضُ مَصْلَحَةٍ لِكُلٍّ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ غَيْرَ لُحُوقِ شَيْءٍ مِنْ الضَّرَرِ فَأَنَّى يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَالْأَحْكَامُ لَمْ تُشْرَعْ إلَّا لِمَصَالِح الْعِبَادِ قَطْعًا فَكَانَ مَشْرُوعًا قَطْعًا، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثُ عَلَى الْبَيْعِ الْبَاتِّ الَّذِي لَا خِيَارَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُوجِبُ ضَرَرَ الْمُشْتَرِي، وَالنَّهْيُ قَطْعًا لَيْسَ إلَّا لِذَلِكَ، فَظَهَرَ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْحَدِيثَيْنِ لَمْ يَنْفِ مَا أَجَزْنَاهُ فَكَانَ نَفْيُهُ قَوْلًا بِلَا دَلِيلٍ، وَكَفَانَا فِي إثْبَاتِهِ الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّهُ مَالٌ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ لَا ضَرَرَ فِي بَيْعِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فَكَانَ جَائِزًا، وَيَبْقَى الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنَّفُ زِيَادَةً فِي الْخَبَرِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ مُرْسَلًا.
حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ مَكْحُولٍ رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ ﷺ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute