بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ بِالْعَرْضِ لِأَنَّ الْفَضْلَ إنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ الْمُجَانَسَةِ. .
ابْنُ عَبْدِ الْهَادِي فِي التَّنْقِيحِ: هَذَا إسْنَادٌ جَيِّدٌ وَإِنْ كَانَ الشَّافِعِيُّ قَالَ: لَا يَثْبُتُ مِثْلُهُ عَنْ عَائِشَةَ. وَقَوْلُ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي الْعَالِيَةِ هِيَ مَجْهُولَةٌ لَا يُحْتَجُّ بِهَا فِيهِ نَظَرٌ، فَقَدْ خَالَفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَلَوْلَا أَنَّ عِنْدَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عِلْمًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ لَمْ تَسْتَجِزْ أَنْ تَقُولَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ بِالِاجْتِهَادِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هَذَا مِمَّا لَا يُدْرَكُ بِالرَّأْيِ. وَالْمُرَادُ بِالْعَالِيَةِ امْرَأَةُ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ الَّتِي ذَكَرَ أَنَّهَا دَخَلَتْ مَعَ أُمِّ الْوَلَدِ عَلَى عَائِشَةَ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: قَالُوا: إنَّ الْعَالِيَةَ امْرَأَةٌ مَجْهُولَةٌ لَا يُحْتَجُّ بِنَقْلِ خَبَرِهَا. قُلْنَا هِيَ امْرَأَةٌ جَلِيلَةُ الْقَدْرِ ذَكَرَهَا ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ فَقَالَ: الْعَالِيَةُ بِنْتُ أَنْفَعَ بْنِ شَرَاحِيلَ امْرَأَةُ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ سَمِعَتْ مِنْ عَائِشَةَ. وَقَوْلُهَا بِئْسَ مَا شَرَيْت: أَيْ بِعْت قَوْله تَعَالَى ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ﴾ أَيْ بَاعُوهُ، وَإِنَّمَا ذَمَّتْ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ وَذَمَّتْ الثَّانِيَ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودُ الْفَسَادِ.
وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى هَذَا النَّحْوِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ وَالثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ امْرَأَةٍ أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ فِي نِسْوَةٍ فَسَأَلَتْهَا امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ فَبِعْتهَا مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرَقْمَ بِثَمَانِمِائَةٍ إلَى الْعَطَاءِ ثُمَّ ابْتَعْتهَا مِنْهُ بِسِتِّمِائَةٍ فَنَقَدْته السِّتَّمِائَةِ وَكَتَبَ لِي عَلَيْهِ ثَمَانَمِائَةٍ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إلَى قَوْلِهَا إلَّا أَنْ تَتُوبَ، وَزَادَ: فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ لِعَائِشَةَ: أَرَأَيْت إنْ أَخَذْت رَأْسَ مَالِي وَرَدَدْت عَلَيْهِ الْفَضْلَ؟ فَقَالَتْ ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾.
لَا يُقَالُ: إنَّ قَوْلَ عَائِشَةَ وَرَدَّهَا لِجَهَالَةِ الْأَجَلِ وَهُوَ الْبَيْعُ إلَى الْعَطَاءِ، فَإِنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَرَى جَوَازَ الْأَجَلِ إلَى الْعَطَاءِ. ذَكَرَهُ فِي الْأَسْرَارِ وَغَيْرِهِ. وَاَلَّذِي عُقِلَ مِنْ مَعْنَى النَّهْيِ أَنَّهُ اسْتَرْبَحَ مَا لَيْسَ فِي ضَمَانِهِ.
وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ لَا يَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَإِذَا عَادَ إلَيْهِ الْمِلْكُ الَّذِي زَالَ عَنْهُ بِعَيْنِهِ وَبَقِيَ لَهُ بَعْضُ الثَّمَنِ فَهُوَ رِبْحٌ حَصَلَ لَا عَلَى ضَمَانِهِ مِنْ جِهَةِ مَنْ بَاعَهُ، وَهَذَا لَا يُوجَدْ فِيمَا إذَا اشْتَرَاهُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ أَوْ أَكْثَرَ فَبَطَلَ إلْحَاقُ الشَّافِعِيِّ بِذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ الْبَائِعِ فَاشْتَرَاهُ الْبَائِعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَسْبَابِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْأَعْيَانِ حُكْمًا، وَكَذَا لَوْ دَخَلَ فِي الْمَبِيعِ عَيْبٌ فَاشْتَرَاهُ الْبَائِعُ بِأَقَلَّ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ بِالصِّفَةِ الَّتِي خَرَجَ فَلَا يَتَحَقَّقُ رِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ، بَلْ يَجْعَلُ النُّقْصَانَ بِمُقَابَلَةِ الْجُزْءِ الَّذِي احْتَبَسَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ النُّقْصَانُ بِقَدْرِ ذَلِكَ الْعَيْبِ أَوْ دُونَهُ، حَتَّى لَوْ كَانَ النُّقْصَانُ نُقْصَانَ سِعْرٍ فَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْعُقُودِ؛ لِأَنَّهُ فُتُورٌ فِي رَغَبَاتِ النَّاسِ فِيهِ وَلَيْسَ مِنْ فَوَاتِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ، وَلِذَلِكَ إذَا اشْتَرَاهُ بِجِنْسٍ آخَرَ غَيْرَ الثَّمَنِ جَازَ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يَتَحَقَّقُ عَيْنُهُ مَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ الْفَضْلَ إنَّمَا يَظْهَرُ بِالتَّقْوِيمِ وَالْبَيْعَ لَا يَعْقُبُ ذَلِكَ بِخِلَافِهِ بِجِنْسِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ لِظُهُورِهِ بِلَا تَقْوِيمٍ، وَقَدْ أُورِدُ عَلَيْهِ تَجْوِيزُ كَوْنِ إنْكَارِ عَائِشَةَ لِوُقُوعِ الْبَيْعِ الثَّانِي قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ إذْ الْقَبْضُ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْحَدِيثِ.
قُلْنَا: لَا يَصِحُّ هَذَا؛ لِأَنَّهَا ذَمَّتْهُ لِأَجَلِ الرِّبَا بِقَرِينَةِ تِلَاوَةِ آيَةِ الرِّبَا، وَلَيْسَ فِي بَيْعِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ رِبًا. وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذَا الْجَوَابِ؛ لِأَنَّ تِلَاوَةَ الْآيَةِ ظَاهِرٌ فِي كَوْنِهَا لِاشْتِمَالِهَا عَلَى قَبُولِ التَّوْبَةِ جَوَابًا لِقَوْلِ الْمَرْأَةِ: أَرَأَيْت إنْ أَخَذْت رَأْسَ مَالِي وَرَدَدْت عَلَيْهِ الْفَضْلَ، كَانَ هَذَا مَعَ التَّوْبَةِ، فَتَلَتْ آيَةً ظَاهِرَةً فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ وَإِنْ كَانَ سَوْقُهَا فِي الْقُرْآنِ فِي الرِّبَا. وَأُورِدَ عَلَيْهِ طَلَبُ الْفَرْقِ بَيْنَ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْوَلَدِ الْكَائِنِ مَعَ أُمِّهِ مُفْرَدًا لَمْ يُوجِبْ الْفَسَادَ فَلِمَ أَوْجَبَهُ هَذَا النَّهْيُ.
أُجِيبَ بِأَنَّ النَّهْيَ إذَا كَانَ لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْبَيْعِ أَوْجَبَهُ، وَإِنْ كَانَ لِأَمْرٍ خَارِجٍ لَا، وَالنَّهْيُ فِيمَا ذُكِرَ لِلتَّفْرِيقِ لَا لِنَفْسِ الْبَيْعِ، حَتَّى لَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ الْبَيْعِ أَثِمَ فَيُكْرَهُ فِي نَفْسِهِ كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ، وَهُنَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute