قَالَ (وَمَنْ بَاعَ دَارًا لِرَجُلٍ وَأَدْخَلَهَا الْمُشْتَرِي فِي بِنَائِهِ لَمْ يَضْمَنْ الْبَائِعُ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ﵀ آخِرًا، وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا: يَضْمَنُ الْبَائِعُ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ ﵀، وَهِيَ مَسْأَلَةُ غَصْبِ الْعَقَارِ وَسَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهِ تَعَالَى، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
أَنَّ هَذَا تَنَاقُضٌ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الدَّعْوَى؛ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ أَوْ أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ غَيْرَهُ، وَكَذَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ ثُمَّ أَقَامَ الْعَبْدَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ قَبْلَ ذَلِكَ قُبِلَتْ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ﵏ فِيمَنْ بَاعَ أَرْضًا ثُمَّ أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ بَاعَ مَا هُوَ وَقْفٌ. مِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا يُقْبَلُ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَصَارَ كَالْبَيْعِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ تُقْبَلُ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ الْقَضَاءِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ التَّدْبِيرِ وَنَحْوِهِ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ ﵀ إنَّمَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي أَنَّهَا حُرَّةٌ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ قَامَتْ عَلَى حُرْمَةِ الْفَرْجِ فَتُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى، حَتَّى لَوْ كَانَ مَكَانَ الْأَمَةِ عَبْدٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تُقْبَلُ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا تُقْبَلُ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى عِتْقِ الْعَبْدِ فَلَا تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى، وَالتَّنَاقُضُ يَمْنَعُ الدَّعْوَى.
وَلَوْ ادَّعَى الْمُسْتَحِقُّ أَنَّهَا أَمَتُهُ أَعْتَقَهَا أَوْ دَبَّرَهَا أَوْ وَلَدَتْ مِنْهُ فَأَقَرَّ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ أَوْ أَبَى الْيَمِينَ وَقَضَى عَلَيْهِ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ أَقَامَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الْبَائِعِ بِذَلِكَ، إنْ شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ الشِّرَاءِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِبَيِّنَتِهِ أَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ فَكَانَ مُدَّعِيًا لِلدَّيْنِ فَلَا يَكُونُ مُنَاقِضًا، فَإِنْ شَهِدُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ الشِّرَاءِ بَيْنَهُمَا لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّهَا وَقْتُ الْعَقْدِ كَانَتْ مَمْلُوكَةً مَحَلًّا لِلْعَقْدِ، وَالْإِعْتَاقُ الْمُتَأَخِّرُ لَا يُبْطِلُ الشِّرَاءَ السَّابِقَ.
(قَوْلُهُ وَمَنْ بَاعَ دَارًا لِرَجُلٍ) أَيْ عَرْصَةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ. وَفِي جَامِعِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ: مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ إذَا بَاعَهَا ثُمَّ اعْتَرَفَ بِالْغَصْبِ بَعْدَمَا أَدْخَلَهَا الْمُشْتَرِي فِي بِنَائِهِ فَكَذَّبَهُ الْمُشْتَرِي (لَمْ يَضْمَنْ الْبَائِعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) لِمَنْ أَقَرَّ بِالْغَصْبِ مِنْهُ (وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ آخِرًا، وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا يَضْمَنُ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَهِيَ مَسْأَلَةُ غَصْبِ الْعَقَارِ) هَلْ يَتَحَقَّقُ أَوْ لَا؟ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا فَلَا يَضْمَنُ، وَعَنْهُ مُحَمَّدِ نَعَمْ فَيَضْمَنُ.
[فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْفَصْلِ]
بَاعَ الْأَمَةَ فُضُولِيٌّ مِنْ رَجُلٍ وَزَوَّجَهَا مِنْهُ فُضُولِيٌّ آخَرُ فَأُجِيزَا مَعًا ثَبَتَ الْأَقْوَى فَتَصِيرُ مَمْلُوكَةً لَا زَوْجَةً؛ وَلَوْ زَوَّجَاهَا مِنْ رَجُلٍ فَأُجِيزَا بَطَلَا، وَلَوْ بَاعَاهَا مِنْ رَجُلٍ فَأُجِيزَا تُنَصَّفُ بَيْنَهُمَا وَيُخَيَّرُ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيْنَ أَخْذِ النِّصْفِ أَوْ التَّرْكِ. وَلَوْ بَاعَهُ فُضُولِيٌّ وَآجَرَهُ آخَرُ أَوْ رَهَنَهُ أَوْ زَوَّجَهُ فَأُجِيزَا مَعًا ثَبَتَ الْأَقْوَى فَيَجُوزُ الْبَيْعُ وَيَبْطُلُ غَيْرُهُ لِأَنَّ الْبَيْعَ أَقْوَى، وَكَذَا تَثْبُتُ الْهِبَةُ إذَا وَهَبَهُ فُضُولِيٌّ وَآجَرَهُ آخَرُ وَكُلٌّ مِنْ الْعِتْقِ وَالْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهَا لِأَنَّهَا لَازِمَةٌ بِخِلَافِ غَيْرِهَا.
وَالْإِجَارَةُ أَحَقُّ مِنْ الرَّهْنِ لِإِفَادَتِهَا مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ، وَالْبَيْعُ أَحَقُّ مِنْ الْهِبَةِ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَبْطُلُ بِالشُّيُوعِ، فَفِيمَا لَا يَبْطُلُ بِالشُّيُوعِ كَهِبَةِ فُضُولِيٍّ عَبْدًا وَبَيْعِ آخَرَ إيَّاهُ يَسْتَوِيَانِ لِأَنَّ الْهِبَةَ مَعَ الْقَبْضِ تُسَاوِي الْبَيْعَ فِي إفَادَةِ الْمِلْكِ، وَهِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا لَا يُقَسَّمُ صَحِيحَةٌ فَيَأْخُذُ كُلٌّ النِّصْفِ.
وَلَوْ تَبَايَعَ غَاصِبًا عِرْضَيْ رَجُلٍ وَاحِدِ لَهُ فَأَجَازَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْبَيْعِ ثُبُوتُ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَالتَّصَرُّفِ وَهُمَا حَاصِلَانِ لِلْمَالِكِ فِي الْبَدَلَيْنِ بِدُونِ هَذَا الْعَقْدِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ فَلَمْ تَلْحَقْهُ الْإِجَازَةُ. وَلَوْ غَصْبًا مِنْ رَجُلَيْنِ وَتَبَايَعَا وَأَجَازَ الْمَالِكُ جَازَ. وَلَوْ غَصَبَا النَّقْدَيْنِ مِنْ وَاحِدٍ وَعَقْدَ الصَّرْفِ وَتَقَابَضَا ثُمَّ أَجَازَ جَازَ لِأَنَّ النُّقُودَ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَاصِبِينَ