وَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى التَّسْلِيمِ لَمْ يُوجَدْ الْمُرَخِّصُ فَبَقِيَ عَلَى النَّافِي.
قَالَ (وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِأَجَلٍ مَعْلُومٍ) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهِ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَالْأَجَلُ أَدْنَاهُ شَهْرٌ
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا حَقِيقَةً فَقَدْ ثَبَتَتْ قُدْرَتُهُ بِمَا دَخَلَ فِي يَدِهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَلِهَذَا أَوْجَبْنَا تَسْلِيمَ رَأْسِ الْمَالِ، بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ الْحَالَّةِ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَخْرُجُ بِالْكِتَابَةِ مِنْ يَدِ مَوْلَاهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلَ فِي مُلْكِهِ شَيْءٌ فَلَا يَصِيرُ قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمٍ بَدَلَ الْكِتَابَةِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالكُمْ بِقَوْلِهِ ﷺ «مَنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ فِي شَيْءٍ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» فَلَيْسَ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِالتَّأْجِيلِ فِي السَّلَمِ فَيَمْنَعُ الْحَالَّ، بَلْ مَعْنَاهُ: مَنْ أَسْلَمَ فِي مَكِيلٍ فَلْيُسْلِمْ فِي مَكِيلٍ مَعْلُومٍ أَوْ فِي مَوْزُونٍ فَلْيُسْلِمْ فِي مَوْزُونٍ مَعْلُومٍ أَوْ إلَى أَجَلٍ فَلِيَكُنْ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَكَانَ أَيْضًا أَمْرًا بِأَنْ يَكُونَ السَّلَمُ فِي مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ فَلَمْ يَجُزْ فِي الْمَعْدُودِ وَالْمَذْرُوعِ لِأَنَّ النَّسَقَ فِي الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ وَاحِدٌ.
وَنَحْنُ نَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ أَهْلَ الْإِجْمَاعِ قَاطِبَةً فِي إخْرَاجِهِ مِنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ الْعَامِّ لِلتَّرْخِيصِ لِلْمَفَالِيسِ الْمُحْتَاجِينَ إلَى نَفَقَةٍ عَاجِلَةٍ قَادِرِينَ عَلَى الْبَدَلِ بِقُدْرَةٍ آجِلَةٍ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَحِلُّ الرُّخْصَةِ إلَّا مَعَ ذِكْرِ الْأَجَلِ فَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِ، وَكَوْنُهُ قَادِرًا حَالَ الْعَقْدِ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْمُبِيحُ فِي حَقِّهِ. وَلَمَّا كَانَ جَوَازُهُ لِلْحَاجَةِ وَهِيَ بَاطِنَةٌ أُنِيطَ بِأَمْرٍ ظَاهِرٍ كَمَا هُوَ الْمُسْتَمِرُّ فِي قَوَاعِدِ الشَّرْعِ كَالسَّفَرِ لِلْمَشَقَّةِ وَنَحْوَهُ وَهُوَ ذَكَرَ الْأَجَلَ فَلَمْ يَلْتَفِتْ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى كَوْنِ الْمَبِيعِ مَعْدُومًا مِنْ عِنْدِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ حَقِيقَةً أَوْ مَوْجُودًا قَادِرًا هُوَ عَلَيْهِ، فَقَوْلُ الْمُصَنِّفُ (وَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى التَّسْلِيمِ لَمْ يُوجَدْ الْمُرَخَّصُ) مَعْنَاهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْأَجَلَ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُمْ: الْغَرَرُ فِي السَّلَمِ الْحَالِ أَقَلُّ مِنْهُ فِي الْمُؤَجَّلِ بَعْدَمَا ذَكَرْنَا لَا يُفِيدُ شَيْئًا: أَعْنِي بَعْدَمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ شَرْعِيَّتَهُ لِدَفْعِ حَاجَةِ الْمُحْتَاجِ إلَى الْمَالِ الْعَاجِزِ عَنْ الْعِوَضِ فِي الْحَالِ، فَإِنَّ الْغَرَرَ قَدْ يُحْمَلُ فِيهِ لِتِلْكَ الْحَاجَةِ وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ فِي السَّلَمِ الْحَالِّ
(قَوْلُهُ وَالْأَجَلُ أَدْنَاهُ شَهْرٌ إلَى آخِرِهِ) فِي التُّحْفَةِ: لَا رِوَايَةٌ عَنْ أَصْحَابِنَا - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فِي الْمَبْسُوطِ فِي مِقْدَارِ الْأَجَلِ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْهُمْ.
وَالْأَصَحُّ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالشَّهْرِ لِأَنَّهُ أَدْنَى الْآجِلِ وَأَقْصَى الْعَاجِلِ. وَقَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: الصَّحِيحُ مَا رُوِيَ عَنْ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَهُوَ جَدِيرٌ أَنْ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَا ضَابِطَ مُحَقَّقٌ فِيهِ، وَكَذَا مَا عَنْ الْكَرْخِيِّ مِنْ رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى مِقْدَارِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَإِلَى عُرْفِ النَّاسِ فِي تَأْجِيلِ مِثْلِهِ، كُلُّ هَذَا تَنْفَتِحُ فِيهِ الْمُنَازَعَاتُ، بِخِلَافِ الْمِقْدَارِ الْمُعَيَّنِ مِنْ الزَّمَانِ.
وَفِي الْإِيضَاحِ: فَإِنْ قَدَّرَا نِصْفَ يَوْمٍ جَازَ، وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا قَدَّرُوا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ اسْتِدْلَالًا بِمُدَّةِ خِيَارِ الشَّرْطِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ ثَمَّةَ بِالثَّلَاثِ بَيَانُ أَقْصَى الْمُدَّةِ، فَأَمَّا أَدْنَاهُ فَغَيْرُ مُقَدَّرٌ انْتَهَى.
وَالتَّقْدِيرُ بِالثَّلَاثِ يُرْوَى عَنْ الشَّيْخِ أَبِي جَعْفَرِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ أُسْتَاذُ الطَّحَاوِيِّ. وَصَحَّحَ الْمُصَنِّفُ الْأَوَّلَ لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَلِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ مَسْأَلَةِ الْيَمِينِ وَهِيَ مَا إذَا حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ دِينَهُ عَاجِلًا فَقَضَاهُ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ فَكَانَ مَا دُونَ الشَّهْرِ