قَالَ (وَيُكْرَهُ تَلْقِينُ الشَّاهِدِ) وَمَعْنَاهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ أَتَشْهَدُ بِكَذَا وَكَذَا، وَهَذَا لِأَنَّهُ إعَانَةٌ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فَيُكْرَهُ كَتَلْقِينِ الْخَصْمِ. وَاسْتَحْسَنَهُ أَبُو يُوسُفَ ﵀ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التُّهْمَةِ لِأَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يَحْصُرُ لِمَهَابَةِ الْمَجْلِسِ فَكَانَ تَلْقِينُهُ إحْيَاءً لِلْحَقِّ بِمَنْزِلَةِ الْإِشْخَاصِ وَالتَّكْفِيلِ.
مِنْ أَخْذِ بَوَّابِ الْقَاضِي شَيْئًا لِيُمَكِّنَّهُ مِنْ الدُّخُولِ وَهُوَ يَعْلَمُ. قَالُوا: هَذَا فَسَادٌ عَظِيمٌ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ التَّقَدُّمِ إلَى بَابِ الْقَاضِي فِي حَاجَةٍ، وَالْمَأْخُوذُ عَلَى ذَلِكَ رِشْوَةٌ مُحَرَّمَةٌ، وَعَلَى هَذَا يُقَاسُ حَالُ الَّذِي يُسَمَّى فِي زَمَانِنَا نَقِيبَ الْقَاضِي. قِيلَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ بَيْنَ يَدَيْهِ إذَا جَلَسَ لِلْحُكْمِ رَجُلٌ يَمْنَعُ النَّاسَ مِنْ التَّقَدُّمِ إلَيْهِ مَعَهُ سَوْطٌ يُقَالُ لَهُ الْجِلْوَازُ، وَصَاحِبُ الْمَجْلِسِ يُقِيمُ الْخُصُومَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى الْبُعْدِ وَالشُّهُودُ بِقُرْبٍ مِنْ الْقَاضِي، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقِيَامَ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي لِلْخُصُومَةِ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا، بَلْ أَنْ يُجْلِسَهُمَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَهَذِهِ أَيْضًا مِنْ الْمُحْدَثَاتِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَاجَةِ إلَيْهِ.
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ ﵄ أَنَّهُ كَانَ إذَا سَافَرَ اسْتَصْحَبَ رَجُلًا سَيِّئَ الْأَدَبِ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: أَمَا عَلِمْت أَنَّ الشَّرَّ بِالشَّرِّ يُدْفَعُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّاسَ مُخْتَلِفُو الْأَحْوَالِ وَالْأَدَبِ. وَقَدْ حَدَثَ فِي هَذَا الزَّمَانِ أُمُورٌ وَسُفَهَاءُ فَيَعْمَلُ بِمُقْتَضَى الْحَالِ مُرَادًا بِهِ الْخَيْرَ لَا حِشْمَةَ النَّفْسِ الْمُؤَدِّي إلَى الْإِعْجَابِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ عِبْسَةٌ بِلَا غَضَبٍ، وَأَنْ يَلْزَمَ التَّوَاضُعَ مِنْ غَيْرِ وَهْنٍ وَلَا ضَعْفٍ، وَلَا يَتْرُكُ شَيْئًا مِنْ الْحَقِّ، وَيَتَّخِذُ كَاتِبًا أَمِينًا صَالِحًا يَكْتُبُ الْمَحَاضِرَ وَالسِّجِلَّاتِ عَارِفًا بِهَا كَيْ لَا يَقَعَ السِّجِلُّ فَاسِدًا بِالْإِخْلَالِ بِبَعْضِ الشُّرُوطِ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ السِّجِلَّاتِ وَالْمَحَاضِرَ، وَيُقْعِدُهُ حَيْثُ يَرَى مَا يَكْتُبُ وَيَكْتُبُ خُصُومَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا وَشَهَادَةَ شُهُودِهِمَا فِي صَحِيفَةٍ وَهِيَ الْمَحْضَرُ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ، بِخِلَافِ عُرْفِ الْعَادَةِ الْيَوْمَ بِمِصْرَ.
(قَوْلُهُ وَيُكْرَهُ تَلْقِينُ الشَّاهِدِ) وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَهُ الْقَاضِي كَلَامًا يَسْتَفِيدُ بِهِ الشَّاهِدُ عِلْمًا وَعَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيِّ لَا بَأْسَ بِهِ لِمَنْ اسْتَوْلَتْهُ الْحِيرَةُ أَوْ الْهَيْبَةُ فَتَرَكَ شَيْئًا مِنْ شَرَائِطِ الشَّهَادَةِ فَيُعِينُهُ بِقَوْلِهِ أَتَشْهَدُ بِكَذَا وَكَذَا بِشَرْطِ كَوْنِهِ (فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التُّهْمَةِ) أَمَّا فِيهَا بِأَنْ ادَّعَى الْمُدَّعِي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُنْكِرُ الْخَمْسَمِائَةِ وَشَهِدَ الشَّاهِدُ بِأَلْفٍ فَيَقُولُ الْقَاضِي يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَبْرَأَهُ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ وَاسْتَفَادَ الشَّاهِدُ بِذَلِكَ عِلْمًا فَوُفِّقَ بِهِ فِي شَهَادَتِهِ كَمَا وُفِّقَ الْقَاضِي فَهَذَا لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا فِي تَلْقِينِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ. وَفِي الْمَبْسُوطِ: مَا قَالَاهُ عَزِيمَةٌ لِأَنَّ الْقَاضِيَ مَنْهِيٌّ عَنْ اكْتِسَابِ مَا يَجُرُّ إلَيْهِ تُهْمَةَ الْمَيْلِ وَتَلْقِينُ الشَّاهِدِ لَا يَخْلُو مِنْهُ. وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رُخْصَةٌ، فَإِنَّهُ لَمَّا اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ شَاهِدُ الْحَصْرِ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ مُهَابٌ فَيَضِيعُ الْحَقُّ إذَا لَمْ يُعِنْهُ عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَيَحْصَرُ مُضَارِعُ حَصِرَ مِنْ بَابِ عَلِمَ إذَا امْتَنَعَ عَلَيْهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute