قَالَ (وَإِذَا ثَبَتَ الْحَقُّ عِنْدَ الْقَاضِي وَطَلَبَ صَاحِبُ الْحَقِّ حَبْسَ غَرِيمِهِ لَمْ يُعَجِّلْ بِحَبْسِهِ وَأَمَرَهُ بِدَفْعِ مَا عَلَيْهِ) لِأَنَّ الْحَبْسَ جَزَاءُ الْمُمَاطَلَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِهَا، وَهَذَا إذَا ثَبَتَ الْحَقُّ بِإِقْرَارِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ كَوْنَهُ مُمَاطِلًا فِي أَوَّلِ الْوَهْلَةِ فَلَعَلَّهُ طَمِعَ فِي الْإِمْهَالِ فَلَمْ يَسْتَصْحِبْ الْمَالُ، فَإِذَا امْتَنَعَ بَعْدَ ذَلِكَ حَبَسَهُ لِظُهُورِ مَطْلِهِ، أَمَّا إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ حَبَسَهُ كَمَا ثَبَتَ لِظُهُورِ الْمَطْلِ بِإِنْكَارِهِ.
قَالَ فِي الْفَائِقِ: إنَّ عَلِيًّا بَنَى سِجْنًا مِنْ قَصَبٍ فَسَمَّاهُ نَافِعًا، فَنَقَبَهُ اللُّصُوصُ وَتَسَيَّبَ النَّاسُ مِنْهُ، ثُمَّ بَنَى سِجْنًا مِنْ مَدَرٍ فَسَمَّاهُ مَخِيسًا، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ عَلِيٌّ ﵁:
أَلَا تَرَانِي كَيِّسًا مُكَيِّسَا … بَنَيْت بَعْدَ نَافِعٍ مُخَيَّسَا
بَابًا حَصِينًا وَأَمِينًا كَيِّسَا
وَالْمُخَيَّسُ مَوْضِعُ التَّخْيِيسِ وَهُوَ التَّذْلِيلُ، وَالْكَيْسُ حُسْنُ التَّأَنِّي فِي الْأُمُورِ، وَالْكَيِّسُ الْمَنْسُوبُ إلَى الْكَيْسِ. وَأَرَادَ بِالْأَمِينِ السَّجَّانَ الَّذِي نَصَبَهُ فِيهِ، وَالْمَحْبُوسُ فِي الدَّيْنِ لَا يَخْرُجُ لِصَوْمِ رَمَضَانَ وَلَا لِعِيدٍ وَلَا لِجُمُعَةٍ وَلَا لِصَلَاةِ جَمَاعَةٍ وَلَا لِحَجِّ فَرِيضَةٍ وَلَا لِحُضُورِ جِنَازَةِ بَعْضِ أَهْلِهِ وَلَوْ أَعْطَى كَفِيلًا بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ شُرِعَ لِيَضْجَرَ قَلْبُهُ فَيُسَارِعَ لِلْقَضَاءِ، وَلِهَذَا قَالُوا: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَوْضِعًا خَشِنًا وَلَا يُبْسَطُ لَهُ فِرَاشٌ وَلَا وِطَاءٌ وَلَا يَدْخُلُ لَهُ أَحَدٌ يَسْتَأْنِسُ بِهِ. وَقِيلَ يَخْرُجُ بِكَفِيلٍ لِجِنَازَةِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ وَالْأَوْلَادِ، وَفِي غَيْرِهِمْ لَا وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ إبْطَالُ حَقٍّ آدَمِيٍّ بِلَا مُوجِبٍ وَمَوْتُ الْأَبِ وَنَحْوُهُ غَيْرُ مُبْطِلٍ بِنَفْسِهِ. نَعَمْ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَقُومُ بِحُقُوقِ دَفْنِهِ فَعَلَ ذَلِكَ. وَسُئِلَ مُحَمَّدٌ عَمَّا إذَا مَاتَ وَالِدُهُ أَيَخْرُجُ فَقَالَ لَا. وَلَوْ مَرِضَ فِي السِّجْنِ فَأَضْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ خَادِمٌ لَا يَخْرُجُ حَتَّى يَمُوتَ، إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِمٌ يَخْرُجُ لِأَنَّهُ قَدْ يَمُوتُ بِسَبَبِ عَدَمِ الْمُمَرِّضِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مَقْضِيًّا لِلتَّسَبُّبِ فِي هَلَاكِهِ؛ وَلَوْ احْتَاجَ إلَى الْجِمَاعِ تَدْخُلُ زَوْجَتُهُ أَوْ جَارِيَتُهُ فَيَطَؤُهَا حَيْثُ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ، وَقِيلَ يُمْنَعُ مِنْهُ لِأَنَّ الْجِمَاعَ لَيْسَ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ دُخُولِ أَهْلِهِ وَجِيرَانِهِ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إلَى الْمَقْصُودِ مِنْ الْإِيفَاءِ بِمَشُورَتِهِمْ وَرَأْيِهِمْ وَيُمْنَعُونَ مِنْ طُولِ الْمُكْثِ. وَالْمَالُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ فِي الْحَبْسِ، فَيُحْبَسُ فِي الدِّرْهَمِ وَمَا دُونَهُ لِأَنَّ ظُلْمَهُ يَتَحَقَّقُ بِمَنْعِ ذَلِكَ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا ثَبَتَ الْحَقُّ عِنْدَ الْقَاضِي وَطَلَبَ صَاحِبُهُ حَبْسَ غَرِيمِهِ لَمْ يُعَجِّلْ بِحَبْسِهِ حَتَّى يَأْمُرَهُ بِدَفْعِ مَا عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْحَبْسَ جَزَاءُ الْمُمَاطَلَةِ) بِقَوْلِهِ ﷺ «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَفَسَّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ إحْلَالَ عِرْضِهِ بِإِغْلَاظِ الْقَوْلِ لَهُ وَعُقُوبَتِهِ بِالْحَبْسِ (فَلَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِ الْمُمَاطَلَةِ) وَلَمْ تَظْهَرْ بِمُجَرَّدِ ثُبُوتِ الْحَقِّ بِالْإِقْرَارِ (إذْ لَعَلَّهُ طَمَعَ فِي الْإِمْهَالِ فَلَمْ يَسْتَصْحِبْ الْمَالَ) وَإِنَّمَا يَظْهَرُ إذَا أَمَرَهُ بَعْدَ إقْرَارِهِ فَامْتَنَعَ (أَمَّا إذَا ظَهَرَ بِالْبَيِّنَةِ فَيَحْبِسُهُ كَمَا ظَهَرَ لِظُهُورِ الْمُمَاطَلَةِ بِإِنْكَارِهِ). وَفِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ.:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute