. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الْأَوْلَى، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي عِبَارَةِ الْجَامِعِ عَلَى كَوْنِهِ عَالِمًا بِالْخِلَافِ، وَإِنَّمَا مُفَادُهُ أَنَّ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ الَّذِي اخْتَلَفَ فِيهِ عَالِمًا بِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ فَإِنَّهُ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ عَالِمًا، ثُمَّ جَاءَ قَاضٍ آخَرُ يَرَى خِلَافَ ذَلِكَ الَّذِي حَكَمَ بِهِ هَذَا أَمْضَاهُ فَرُبَّمَا يُفِيدُ أَنَّ الثَّانِيَ عَالِمٌ بِالْخِلَافِ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمُنَفِّذُ وَالْكَلَامُ فِي الْقَاضِي الْأَوَّلِ الَّذِي يُنَفِّذُ هَذَا الْآخَرُ حُكْمَهُ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِالْخِلَافِ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الدَّلَالَةِ.
نَعَمْ فِي الْجَامِعِ التَّنْصِيصُ عَلَى أَنَّهُ يُنَفِّذُهُ وَإِنْ كَانَ خِلَافَ رَأْيِهِ، وَكَلَامُ الْقُدُورِيِّ يُفِيدُهُ أَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا رُفِعَ إلَيْهِ حُكْمُ حَاكِمٍ أَمْضَاهُ وَهُوَ أَعَمُّ يَنْتَظِمُ مَا إذَا كَانَ مُوَافِقًا لِرَأْيِهِ أَوْ مُخَالِفًا، وَإِنَّمَا فِي الْجَامِعِ النُّصُوصِيَّةُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مُخَالِفًا.
وَقَوْلُهُ إلَّا أَنْ يُخَالِفَ إلَخْ حَاصِلُهُ بَيَانُ شَرْطِ جَوَازِ الِاجْتِهَادِ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ كَوْنُ الْمَحَلِّ مُجْتَهَدًا فِيهِ حَتَّى تَجُوزَ مُخَالَفَتُهُ أَوْ لَا، فَشَرْطُ حِلِّ الِاجْتِهَادِ أَنْ لَا يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ: يَعْنِي الْمَشْهُورَةَ، مِثْلُ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» فَلَوْ قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ لَا يَنْفُذُ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى إمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ ذَكَرَهُ فِي أَقْضِيَةِ الْجَامِعِ، وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ يَنْفُذُ مُطْلَقًا، ثُمَّ يُرَادُ بِالْكِتَابِ الْمُجْمَعِ عَلَى مُرَادِهِ أَوْ مَا يَكُونُ مَدْلُولٌ لَفْظُهُ وَلَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ وَلَا تَأْوِيلُهُ بِدَلِيلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ.
فَالْأَوَّلُ مِثْلُ ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ الْآيَةَ، لَوْ قَضَى قَاضٍ بِحِلِّ أُمِّ امْرَأَتِهِ كَانَ بَاطِلًا لَا يَنْفُذُ. وَالثَّانِي مِثْلُ ﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ وَلَا يَنْفُذُ الْحُكْمُ بِحِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا، وَهَذَا لَا يَنْضَبِطُ فَإِنَّ النَّصَّ قَدْ يَكُونُ مُؤَوَّلًا فَيَخْرُجُ عَنْ ظَاهِرِهِ، فَإِذَا مَنَعْنَاهُ يُجَابُ بِأَنَّهُ مُؤَوَّلٌ بِالْمَذْبُوحِ لِلْأَنْصَابِ أَيَّامَ الْجَاهِلِيَّةِ فَيَقَعُ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ مُؤَوَّلٌ أَوْ لَيْسَ بِمُؤَوَّلٍ، فَلَا يَكُونُ حُكْمُ أَحَدِ الْمُتَنَاظِرِينَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤَوَّلٍ قَاضِيًا عَلَى غَيْرِهِ بِمَنْعِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ. نَعَمْ قَدْ يَتَرَجَّحُ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِثُبُوتِ دَلِيلِ التَّأْوِيلِ فَيَقَعُ الِاجْتِهَادُ فِي بَعْضِ أَفْرَادِ هَذَا الْقِسْمِ أَنَّهُ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ أَوْ لَا، وَلِذَا نَمْنَعُ نَحْنُ نَفَاذَ الْقَضَاءِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَيُجِيزُونَهُ وَبِالْعَكْسِ، وَلَقَدْ نُقِلَ الْخِلَافُ فِي الْحِلِّ عِنْدَنَا أَيْضًا وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ لَمْ يَحْكُوا الْخِلَافَ. فَفِي الْخُلَاصَةِ فِي رَابِعِ جِنْسٍ مِنْ الْفَصْلِ الرَّابِعِ مِنْ أَدَبِ الْقَاضِي قَالَ: وَأَمَّا الْقَضَاءُ بِحِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا فَجَائِزٌ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ انْتَهَى.
وَأَمَّا عَدَمُ تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ بِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ عَلَى الْحُكْمِ أَوْ عَلَى تَأْوِيلِ السَّمْعِيِّ أَوْ بِنَقْلِ عَدَمِ تَسْوِيغِ فُقَهَاءِ الْعَصْرِ اجْتِهَادَهُ، وَذَلِكَ مِثْلُ اجْتِهَادِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ فِي جَوَازِ بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ لَمْ يَقْبَلْهُ الصَّحَابَةُ مِنْهُ، فَلَوْ قَضَى بِهِ قَاضٍ لَا يَنْفُذُ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ، وَهَذَا هُوَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ وَفِيمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ لَا يُعْتَبَرُ مُخَالَفَةُ الْبَعْضِ، وَلَا يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بَلْ لَا يُعْتَبَرُ فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ، وَلَمْ يُرِدْ بِالْبَعْضِ مَا دُونَ النِّصْفِ أَوْ مَا دُونَ الْكُلِّ بَلْ الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ وَإِلَّا لَمْ يُعْتَبَرْ قَضَاءً فِي مَحَلٍّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ أَصْلًا، إذْ مَا مِنْ مَحَلِّ اجْتِهَادٍ إلَّا وَأَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ أَقَلُّ مِنْ الْفَرِيقِ الْآخَرِ، إذْ لَا يُضْبَطُ تَسَاوِي الْفَرِيقَيْنِ وَلِذَا لَمْ يُمَثِّلُوهُ قَطُّ إلَّا بِخِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَحْوِهِ، وَهُوَ خِلَافُ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَالْمُرَادُ إذَا اتَّفَقَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ عَلَى حُكْمٍ فَخَالَفَهُمْ وَاحِدٌ لَا يَصِيرُ الْمَحَلُّ بِذَلِكَ مَحَلَّ اجْتِهَادٍ حَتَّى لَا يَنْفُذَ الْقَضَاءُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ الْوَاحِدَ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِ الْبَاقِينَ، ثُمَّ هَذَا أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِمْ سَوَّغُوا اجْتِهَادَهُ ذَلِكَ أَوْ لَا.
وَاَلَّذِي صَحَّحَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَاخْتَارَهُ أَنَّ الْوَاحِدَ الْمُخَالِفَ إنْ سَوَّغُوا لَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute