. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
احْفِرْ فِي دَارِك بِقُرْبِ تِلْكَ الْبِئْرِ بَالُوعَةً فَفَعَلَ، فَسُجِّسَتْ الْبِئْرُ فَكَبَسَهَا صَاحِبُهَا وَلَمْ يُفْتِهِ بِمَنْعِ الْحَافِرِ بَلْ هَدَاهُ إلَى هَذِهِ الْحِيلَةِ، وَبِذَلِكَ كَانَ يُفْتِي الشَّيْخُ الْإِمَامُ ظَهِيرُ الدِّينِ الْمَرْغِينَانِيُّ. وَفِي مُضَارَبَةِ النَّوَازِلِ: لَوْ اتَّخَذَ دَارِهِ حَظِيرَةً لِلْغَنَمِ وَالْجِيرَانُ يَتَأَذَّوْنَ مِنْ نَتِنِ السِّرْقِينِ وَلَا يَأْمَنُونَ عَلَى الرُّعَاةِ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْحُكْمِ مَنْعُهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ. وَلَوْ حَفَرَ فِي دَارِهِ بِئْرًا فَنَزَّ مِنْهَا حَائِطُ جَارِهِ لَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ. قَالَ فِي فُصُولِ الْعِمَادِيِّ نَقْلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ عَنْ نَصِرْ بْنِ يَحْيَى أَنَّ لِلْقَاضِي مَنْعَ الْجَارِ مِنْ ذَلِكَ، وَذَكَرَ غَيْرُهُ تَمَسُّكَهُمْ بِقَوْلِهِ ﷺ «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» وَالْوَجْهُ لِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ صَاحِبَ الْبِنَاءِ كَانَ يَنْتَفِعُ بِهَوَاءِ مِلْكِ صَاحِبِ السَّاحَةِ قَبْلَ الْبِنَاءِ فَصَاحِبُ السَّاحَةِ إذَا سَدَّ الْهَوَاءَ بِالْبِنَاءِ فَإِنَّمَا مَنَعَهُ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ وَلَمْ يُتْلِفْ عَلَيْهِ مِلْكًا وَلَا مَنْفَعَةً، فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ شَجَرَةٌ يَسْتَظِلُّ بِهَا جَارُهُ فَأَرَادَ قَطْعَهَا لَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ تَضَرَّرَ بِهِ الْجَارُ يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ الِانْتِفَاعِ، وَتَصِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ رِوَايَةً فِي مَسْأَلَةٍ لَا رِوَايَةً لَهَا فِي الْكُتُبِ، وَصُورَتُهَا بِالْفَارِسِيَّةِ فِي الذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهَا. وَحَاصِلُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ بَيْتَانِ لِرَجُلَيْنِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا سَقْفٌ وَاحِدٌ فَأَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَرْفَعَ الْبِنَاءَ وَيَجْعَلَهُ ذَا سَقْفَيْنِ. قَالَ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى: إنْ كَانَا فِي الْقَدِيمِ بِسَقْفٍ وَاحِدٍ لِلْآخَرِ أَنْ يَمْنَعَهُ، وَإِنْ كَانَ بِسَقْفَيْنِ فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ، قَالَ: وَحَدُّ الْقَدِيمِ أَنْ لَا تُحْفَظَ أَقْرَانُهُ وَرَاءَ هَذَا الْوَقْتِ كَيْفَ كَانَ.
قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: فَلَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ قَدِيمٌ وَالْآخَرُ عَلَى أَنَّهُ مُحْدَثٌ فَبَيِّنَةُ الْقَدِيمِ أَوْلَى. قَالَ: وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ السِّكَّةِ فِي هَذَا. قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ الْمَنْعُ عَلَى قِيَاسِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ صَاحِبَ الْبَيْتِ الْآخَرِ يَجْعَلُ بَيْتَهُ ذَا سَقْفَيْنِ وَيَمْنَعُهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَوَاءِ مِلْكِ نَفْسِهِ انْتَهَى. وَعَلَى تَقْدِيرِ الْفَرْقِ فَالْفَرْقُ أَنَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْبَيْتَيْنِ يُرِيدُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الضَّوْءِ وَالضَّوْءُ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْأَصْلِ يَمْنَعُهُ عَنْ الشَّمْسِ وَالرِّيحِ وَذَا مِنْ الْحَوَائِجِ الزَّائِدَةِ انْتَهَى.
وَأَمَّا قَوْلُهُ ﷺ «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» فَلَا شَكَّ أَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ لِلْقَطْعِ بِعَدَمِ امْتِنَاعِ كَثِيرٍ مِنْ الضَّرَرِ كَالتَّعَازِيرِ وَالْحُدُودِ وَنَحْوِ مُوَاظَبَةِ طَبْخٍ يَنْتَشِرُ بِهِ دُخَانٌ قَدْ يَنْحَبِسُ فِي خُصُوصِ أَمَاكِنَ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ جِيرَانٌ لَا يَطْبُخُونَ لِفَقْرِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ خُصُوصًا إذَا كَانَ فِيهِمْ مَرِيضٌ يَتَضَرَّرُ بِهِ، وَكَمَا أَرَيْنَاك مِنْ التَّضَرُّرِ بِقَطْعِ الشَّجَرَةِ الْمَمْلُوكَةِ لِلْقَاطِعِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى خُصُوصٍ مِنْ الضَّرَرِ وَهُوَ مَا يُؤَدِّي إلَى هَدْمِ بَيْتِ الْجَارِ وَنَحْوِهِ مِنْ الضَّرَرِ الْبَيِّنِ الْفَاحِشِ. وَفِي الذَّخِيرَةِ: حُكِيَ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِنَا ﵏ أَنَّ الدَّارَ إذَا كَانَتْ مُجَاوِرَةً لِدُورٍ فَأَرَادَ صَاحِبُ الدَّارِ أَنْ يَبْنِيَ فِيهَا تَنُّورًا لِلْخُبْزِ الدَّائِمِ أَوْ رَحًى لِلطَّحْنِ أَوْ مِدَقَّةً لِلْقَصَّارِينَ يُمْنَعُ مِنْهُ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ جِيرَانُهُ ضَرَرًا فَاحِشًا. قِيلَ وَأَجْمَعُوا عَلَى مَنْعِ الدَّقِّ الَّذِي يَهْدِمُ الْحِيطَانَ وَيُوهِنُهَا وَدَوَرَانُ الرَّحَى مِنْ ذَلِكَ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقِيَاسَ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنْ يَفْعَلَ صَاحِبُ الْمِلْكِ مَا بَدَا لَهُ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ وَإِنْ كَانَ يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِغَيْرِهِ، لَكِنْ يُتْرَكُ الْقِيَاسُ فِي مَوْضِعٍ يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ إلَى غَيْرِهِ ضَرَرًا فَاحِشًا كَمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْبَيِّنِ فِيمَا ذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَهُوَ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْهَدْمِ وَمَا يُوهِنُ الْبِنَاءَ سَبَبٌ لَهُ أَوْ يَخْرُجُ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِالْكُلِّيَّةِ وَهُوَ مَا يَمْنَعُ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ كَسَدِّ الضَّوْءِ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْفَرْقِ الْمُتَقَدِّمِ وَاخْتَارُوا الْفَتْوَى عَلَيْهِ.
وَأَمَّا التَّوَسُّعُ إلَى مَنْعِ كُلِّ ضَرَرٍ مَا فَيَسُدُّ بَابَ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِ الْإِنْسَانِ كَمَا ذَكَرْنَا قَرِيبًا، وَمِنْهُ مَا ذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ فِي فَتَاوَاهُ: حُجْرَةٌ سَطْحُهَا وَسَطْحُ جَارِهِ مُتَسَاوِيَانِ فَأَخَذَ جَارُهُ حَتَّى يَتَّخِذَ حَائِطًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَارِهِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الصُّعُودِ حَتَّى يَتَّخِذَ سُتْرَةً، إنْ كَانَ إذَا صَعِدَ يَقَعُ بَصَرُهُ فِي دَارِ جَارِهِ لَهُ الْمَنْعُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقَعُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute