(إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَشْهَدَ بِالْمَالِ فِي السَّرِقَةِ فَيَقُولُ: أَخَذَ) إحْيَاءً لِحَقِّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ (وَلَا يَقُولُ سَرَقَ) مُحَافَظَةً عَلَى السَّتْرِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ ظَهَرَتْ السَّرِقَةُ لَوَجَبَ الْقَطْعُ وَالضَّمَانُ لَا يُجَامِعُ الْقَطْعَ فَلَا يَحْصُلُ إحْيَاءُ حَقِّهِ.
وَزَادَ.
وَقَالَ شُعْبَةُ: قَالَ يَحْيَى: فَذَكَرْت هَذَا الْحَدِيثَ بِمَجْلِسٍ فِيهِ يَزِيدُ بْنُ نُعَيْمِ بْنِ هَزَّالٍ فَقَالَ يَزِيدُ: هَذَا هُوَ الْحَقُّ، هَذَا حَدِيثُ جَدِّي وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. وَرَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ، وَفِيهِ «قَالَ فِي هَزَّالٍ بِئْسَمَا صَنَعْت، لَوْ سَتَرْته بِطَرْفِ رِدَائِك لَكَانَ خَيْرًا لَك، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَدْرِ أَنَّ فِي الْأَمْرِ سَعَةً» وَمِنْهُ قَوْلُهُ ﷺ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ «مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَتَلْقِينُ الدَّرْءِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أَيْ تَلْقِينُ مَا يَحْصُلُ بِهِ الدَّرْءُ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى قَصْدِهِ إلَى السَّتْرِ وَالسَّتْرُ يَحْصُلُ بِالْكِتْمَانِ، فَكَانَ كِتْمَانُ الشَّهَادَةِ بِالْحُدُودِ مَخْصُوصًا مِنْ عُمُومِ تَحْرِيمِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَسْنَدَ الطَّحَاوِيُّ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ «أُتِيَ بِسَارِقٍ إلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذَا سَرَقَ فَقَالَ لَهُ مَا إخَالُهُ سَرَقَ».
وَرَوَى أَبُو دَاوُد «أَنَّهُ ﷺ أُتِيَ بِلِصٍّ قَدْ اعْتَرَفَ اعْتِرَافًا وَلَمْ يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعٌ، فَقَالَ لَهُ ﷺ: مَا إخَالُكَ سَرَقْت، قَالَ فَأَعَادَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَ» الْحَدِيثَ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِمَاعِزٍ: لَعَلَّك قَبَّلْت أَوْ غَمَزْت أَوْ نَظَرْت، قَالَ: لَا» الْحَدِيثُ قَدَّمْنَاهُ فِي الْحُدُودِ. فَإِنْ قُلْت: كَيْفَ صَحَّ لَك الْقَوْلُ بِتَخْصِيصِ الْعَامِّ مِنْ الْكِتَابِ بِهَذِهِ وَهِيَ أَخْبَارُ آحَادٍ، وَأَيْضًا شَرْطُ التَّخْصِيصِ عِنْدَكُمْ الْمُقَارَنَةُ وَمِنْ أَيْنَ ثَبَتَ لَك ذَلِكَ. قُلْت: هَذِهِ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي طَلَبِ السَّتْرِ بَلَغَتْ مَبْلَغًا لَا تَنْحَطُّ بِهِ عَنْ دَرَجَةِ الشُّهْرَةِ لِتَعَدُّدِ مُتُونِهَا مَعَ قَبُولِ الْأُمَّةِ لَهَا فَصَحَّ التَّخْصِيصُ بِهَا، أَوْ هِيَ مُسْتَنَدُ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَخْيِيرِ الشَّاهِدِ فِي الْحُدُودِ، فَثُبُوتُ الْإِجْمَاعِ دَلِيلُ ثُبُوتِ الْمُخَصِّصِ.
وَأَمَّا الْمُقَارَنَةُ فَإِنَّمَا هِيَ شَرْطُ التَّخْصِيصِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهَذَا التَّخْصِيصُ الَّذِي ادَّعَيْنَاهُ هُنَا لَيْسَ بِذَاكَ بَلْ هُوَ جَمْعٌ لِلْمُعَارَضَةِ عَلَى مَا كَتَبْنَاهُ فِي التَّعَارُضِ مِنْ كِتَابِ تَحْرِيرِ الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ إذَا تَعَارَضَا بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِهِ، فَإِذَا وَجَبَ لِلْجَمْعِ حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ تَضَمُّنُ الْحُكْمِ مِنَّا بِأَنَّهُ كَانَ مُقَارِنًا أَوْ أَنَّهَا لَيْسَتْ تَخْصِيصَاتٍ أُوَلَ كَمَا أَنَّا إذَا رَجَّحْنَا فِي التَّعَارُضِ الْمُحَرِّمَ عَلَى الْمُبِيحِ وَثَبَتَ صِحَّتُهُمَا تَضَمَّنَ حُكْمُنَا أَنَّ الْمُبِيحَ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى التَّحْرِيمِ فَنَسَخَ حُكْمًا لِوُجُوبِ تَرْجِيحِ الْمُحَرِّمِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ تَقَدُّمُهُ بِعِلْمِ تَارِيخِهِ، وَكَثِيرًا مَا يَعْتَرِضُ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الشَّارِحِينَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمَحْكُومِ فِيهَا بِالتَّخْصِيصِ مِنْ أَصْحَابِنَا بِأَنَّ الْمُقَارَنَةَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ فَلَا يَثْبُتُ التَّخْصِيصُ، وَمُرَادُهُمْ فِي تِلْكَ الْأَمَاكِنِ مَا ذَكَرْنَا، هَذَا كُلُّهُ إذَا نَظَرْنَا إلَى مُجَرَّدِ إطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى ﴿وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ فَأَمَّا إذَا قَيَّدْنَاهُ بِمَا إذَا دُعُوا لِلشَّهَادَةِ فِي الدَّيْنِ الْمَذْكُورِ أَوَّلَ الْآيَةِ: أَيْ قَوْله تَعَالَى ﴿إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾.
ثُمَّ قَالَ ﴿وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ﴾ يَعْنِي بِذَلِكَ الدَّيْنَ فَظَاهِرٌ (قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَشْهَدَ بِالْمَالِ) اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ مُخَيَّرٌ فِي الْحُدُودِ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَشْهَدَ بِالسَّرِقَةِ فَقَدْ يَتَبَادَرُ أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ فِيهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute