للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ يُظْهِرُ سَبَّ السَّلَفِ) لِظُهُورِ فِسْقِهِ بِخِلَافِ مَنْ يَكْتُمُهُ.

(وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إلَّا الْخَطَّابِيَّةُ)

إنَّمَا يَكْتُبُونَ بَعْدَ صُدُورِ الْعَقْدِ وَقَبْلَ صُدُورِهِ يَكْتُبُونَ عَلَى الْمَجَازِ تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْوَاقِعِ لِيَسْتَغْنُوا عَنْ الْكِتَابَةِ إذَا صَدَرَ الْمَعْنَى بَعْدَهَا. وَرَدَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ شَهَادَةَ الْقَرَوِيِّ وَالْأَعْرَابِيِّ، وَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ تَقْبَلُ إلَّا بِمَانِعٍ غَيْرِهِ. وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الطُّفَيْلِيِّ وَالرَّقَّاصِ وَالْمُجَازِفِ فِي كَلَامِهِ وَالْمَسْخَرَةِ بِلَا خِلَافٍ. وَفِي الْحَدِيثِ «وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ وَيَكْذِبُ كَيْ يَضْحَكَ مِنْهُ النَّاسُ، وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ» وَقَالَ نُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى: مَنْ يَشْتُمُ أَهْلَهُ وَمَمَالِيكَهُ كَثِيرًا فِي كُلِّ سَاعَةٍ لَا تُقْبَلُ وَإِنْ كَانَ أَحْيَانًا تُقْبَلُ، وَكَذَا الشَّتَّامُ لِلْحَيَوَانِ كَدَابَّتِهِ، وَأَمَّا فِي دِيَارِنَا فَكَثِيرًا يَشْتُمُونَ بَائِعَ الدَّابَّةِ فَيَقُولُونَ قَطَعَ اللَّهُ يَدَ مَنْ بَاعَكِ، وَلَا مَنْ يَحْلِفُ فِي كَلَامِهِ كَثِيرًا وَنَحْوِهِ. وَحُكِيَ أَنَّ الْفَضْلَ بْنَ الرَّبِيعِ شَهِدَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَرَدَّ شَهَادَتَهُ فَشَكَاهُ إلَى الْخَلِيفَةِ، فَقَالَ الْخَلِيفَةُ: إنَّ وَزِيرِي رَجُلُ دِينٍ لَا يَشْهَدُ بِالزُّورِ فَلِمَ رَدَدْت شَهَادَتَهُ؟ قَالَ: لِأَنِّي سَمِعْتَهُ يَوْمًا قَالَ لِلْخَلِيفَةِ: أَنَا عَبْدُك، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَلَا شَهَادَةَ لِلْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَكَذَلِكَ، فَعَذَرَهُ الْخَلِيفَةُ. وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ رَدَّ أَبِي يُوسُفَ شَهَادَتَهُ لَيْسَ لِكَذِبِهِ، لِأَنَّ قَوْلَ الْحُرِّ لِغَيْرِهِ أَنَا عَبْدُك مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْقِيَامِ بِخِدْمَتِكَ، وَكَوْنِي تَحْتَ أَمْرِكَ مُمْتَثِلًا لَهُ عَلَى إهَانَةِ نَفْسِي فِي ذَلِكَ وَالتَّكَلُّمُ بِالْمَجَازِ عَلَى اعْتِبَارِ الْجَامِعِ وَوَجْهِ الشَّبَهِ لَيْسَ كَذِبًا مَحْظُورًا شَرْعًا وَلِذَا وَقَعَ الْمَجَازُ فِي الْقُرْآنِ، وَلَكِنْ رَدَّهُ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ خُصُوصُ هَذَا الْمَجَازِ مِنْ إذْلَالِ نَفْسِهِ وَتَمَلُّقِهِ لِأَجْلِ الدُّنْيَا فَرُبَّمَا يَعِزُّ هَذَا الْكَلَامُ إذَا قِيلَ لِلْخَلِيفَةِ فَعَدَلَ إلَى الِاعْتِذَارِ بِأَمْرٍ يَقْرُبُ مِنْ خَاطِرِهِ. وَالْحَاصِلُ فِيهِ أَنَّ تَرْكَ الْمُرُوءَةِ مُسْقِطٌ لِلْعَدَالَةِ. وَقِيلَ فِي تَعْرِيفِ الْمُرُوءَةِ أَنْ لَا يَأْتِي الْإِنْسَانُ بِمَا يَعْتَذِرُ مِنْهُ مِمَّا يَبْخَسُهُ عَنْ مَرْتَبَتِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْفَضْلِ. وَقِيلَ السَّمْتُ الْحَسَنُ وَحِفْظُ اللِّسَانِ وَتَجَنُّبُ السُّخْفِ وَالْمُجُونِ وَالِارْتِفَاعُ عَنْ كُلِّ خُلُقٍ دَنِيءٍ. وَالسُّخْفُ: رِقَّةُ الْعَقْلِ مِنْ قَوْلِهِمْ ثَوْبٌ سَخِيفٌ إذَا كَانَ قَلِيلَ الْغَزْلِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبَخِيلِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ أَفْرَطَ لِأَنَّهُ يُؤَدِّيهِ إلَى مَنْعِ الْحُقُوقِ.

(قَوْلُهُ وَلَا مَنْ يُظْهِرُ سَبَّ السَّلَفِ) كَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَكَذَا الْعُلَمَاءُ. وَنَصَّ أَبُو يُوسُفَ عَلَى عَدَمِ قَبُولِهِ، قَالَ: لِأَنَّهُ إذَا أَظْهَرَ سَبَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ، فَإِذَا أَظْهَرَ فِي وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَيْفَ يَكُونُ مَقْبُولًا، وَقَيَّدَ بِالْإِظْهَارِ لِأَنَّهُ لَوْ اعْتَقَدَهُ وَلَمْ يُظْهِرْ فَهُوَ عَلَى عَدَالَتِهِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَلِذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ: لَا أَقْبَلُ شَهَادَةَ مَنْ يَشْتُمُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ، وَأَقْبَلُ شَهَادَةَ مَنْ يَتَبَرَّأُ مِنْهُمْ، لِأَنَّ إظْهَارَ الشَّتِيمَةِ مُجُونَةٌ وَسَفَهٌ وَلَا يَأْتِي بِهِ إلَّا الْأَوْضَاعُ وَالْأَسْقَاطُ، وَشَهَادَةُ السَّخِيفِ لَا تُقْبَلُ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُتَبَرِّئُ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُهُ دِينًا مَرَضِيًّا عِنْدَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ عَلَى بَاطِلٍ فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَشَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ جَائِزَةٌ.

(قَوْلُهُ وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ) كُلُّهُمْ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْخَوَارِجِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>