قَالَ (وَلَا مَنْ يَفْعَلُ الْأَفْعَالَ الْمُسْتَحْقَرَةَ كَالْبَوْلِ عَلَى الطَّرِيقِ وَالْأَكْلِ عَلَى الطَّرِيقِ) لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِلْمُرُوءَةِ، وَإِذَا كَانَ لَا يَسْتَحْيِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ عَنْ الْكَذِبِ فَيُتَّهَمُ.
وَمَالِكٍ: يُبَاحُ مَعَ الْكَرَاهَةِ إنْ تَجَرَّدَ عَنْ الْحَلِفِ كَاذِبًا وَالْكَذِبِ عَلَيْهِ وَتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا وَالْمُقَامَرَةِ بِهِ فَلَمَّا كَانَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مُتَجَرِّدًا مَسَاغٌ لَمْ تَسْقُطُ الْعَدَالَةُ بِهِ.
وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ مَنْ يَلْعَبُهُ عَلَى الطَّرِيقِ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ فَلِإِتْيَانِهِ الْأُمُورَ الْمُحَقَّرَةَ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الشَّعْبَذَةِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى فِي دِيَارِنَا دِكَاكًا لِأَنَّهُ إمَّا سَاحِرٌ أَوْ كَذَّابٌ: أَعْنِي الَّذِي يَأْكُلُ مِنْهَا وَيَتَّخِذُهَا مُكْسِبَةً، فَأَمَّا مَنْ عَلِمَهَا وَلَمْ يَعْمَلْهَا فَلَا، وَصَاحِبُ السِّيمَيَا عَلَى هَذَا.
(قَوْلُهُ وَلَا مَنْ يَفْعَلُ الْأَفْعَالَ الْمُسْتَحْقَرَةَ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُسْتَقْبَحَةِ، وَفِي بَعْضِهَا الْمُسْتَخِفَّةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي نَفْسِهَا مُحَرَّمَةٌ.
وَالْمُسْتَخَفَّةُ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِهَا: أَيْ الَّتِي يَسْتَخِفُّ النَّاسُ فِعْلَهَا، أَوْ الْخَصْلَةُ الَّتِي تَسْتَخِفُّ الْفَاعِلَ فَيَبْدُو مِنْهُ مَا لَا يَلِيقُ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْله تَعَالَى ﴿وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ﴾ وَذَلِكَ (كَالْأَكْلِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ) يَعْنِي بِمَرْأَى النَّاسِ، وَالْبَوْلِ عَلَيْهَا، وَمِثْلُهُ الَّذِي يَكْشِفُ عَوْرَتَهُ لِيَسْتَنْجِيَ مِنْ جَانِبِ بِرْكَةٍ وَالنَّاسُ حُضُورٌ، وَقَدْ كَثُرَ ذَلِكَ فِي دِيَارِنَا مِنْ الْعَامَّةِ وَبَعْضِ مَنْ لَا يَسْتَحْيِ مِنْ الطَّلَبَةِ، وَالْمَشْيِ بِسَرَاوِيلَ فَقَطْ، وَمَدِّ رِجْلِهِ عِنْدَ النَّاسِ، وَكَشْفِ رَأْسِهِ فِي مَوْضِعٍ يُعَدُّ فِعْلُهُ خِفَّةً وَسُوءَ أَدَبٍ وَقِلَّةَ مُرُوءَةٍ وَحَيَاءٍ، لِأَنَّ مَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ لَا يَبْعُدُ مِنْهُ أَنْ يَشْهَدَ بِالزُّورِ.
وَفِي الْحَدِيثِ عَنْهُ ﵊ «إنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسَ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» وَعَنْ الْكَرْخِيِّ: لَوْ أَنَّ شَيْخًا صَارَعَ الْأَحْدَاثَ فِي الْجَامِعِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ سَخَفٌ. وَأَمَّا أَهْلُ الصِّنَاعَاتِ الدَّنِيئَةِ كَالْكَسَّاحِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى فِي عُرْفِ دِيَارِ مِصْرَ قَنَوَاتِيًّا، وَالزَّبَّالِ وَالْحَائِكِ وَالْحَجَّامِ فَقِيلَ لَا تُقْبَلُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَوُجِّهَ بِكَثْرَةِ خَلْفِهِمْ الْوَعْدَ وَكَذِبِهِمْ، وَرَأَيْت أَكْثَرَ مُخْلِفٍ لِلْوَعْدِ السَّمْكَرِيُّ. وَالْأَصَحُّ تُقْبَلُ لِأَنَّهَا قَدْ تَوَلَّاهَا قَوْمٌ صَالِحُونَ، فَمَا لَمْ يُعْلَمْ الْقَادِحُ لَا يُبْنَى عَلَى ظَاهِرِ الصِّنَاعَةِ، وَمِثْلُهُ النَّخَّاسُونَ وَالدَّلَّالُونَ فَإِنَّهُمْ يَكْذِبُونَ كَثِيرًا زِيَادَةً عَلَى غَيْرِهِمْ مَعَ خَلْفِهِمْ فَلَا يُقْبَلُ إلَّا مَنْ عُلِمَ عَدَالَتُهُ مِنْهُمْ.
وَقِيلَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ بَائِعِ الْأَكْفَانِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: هَذَا إذَا تَرَصَّدَ لِذَلِكَ الْعَمَلِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ يَبِيعُ الثِّيَابَ وَيُشْتَرَى مِنْهُ الْأَكْفَانُ فَتُقْبَلُ لِعَدَمِ تَمَنِّيهِ الْمَوْتَ لِلنَّاسِ وَالطَّاعُونِ. وَقِيلَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الصَّكَّاكِينَ لِأَنَّهُمْ يَكْتُبُونَ هَذَا مَا اشْتَرَى فُلَانٌ أَوْ بَاعَ أَوْ أَجَّرَ وَقَبَضَ الْمَبِيعَ قَبْلَ وُقُوعِهِ فَيَكُونُ كَذِبًا، وَلَا فَرْقَ فِي الْكَذِبِ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْكِتَابَةِ. وَالصَّحِيحُ تُقْبَلُ إذَا كَانَ غَالِبُ أَحْوَالِهِمْ الصَّلَاحَ، فَإِنَّهُمْ غَالِبًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute