وَلَنَا «أَنَّهُ ﵊ تَقَدَّمَ عَلَى أَنَسٍ وَالْيَتِيمِ حِينَ صَلَّى بِهِمَا»
فَلَمْ يَقُلْ هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَفْعَلُهُ. قِيلَ كَأَنَّهُمَا ذَهِلَا، فَإِنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَهُ مِنْ ثَلَاثِ طُرُقٍ لَمْ يَرْفَعْهُ فِي الْأُولَيَيْنِ وَرَفَعَهُ فِي الثَّالِثَةِ وَقَالَ: هَكَذَا فَعَلَ إلَى آخِرِهِ، وَإِذَا صَحَّ الرَّفْعُ فَالْجَوَابُ إمَّا بِأَنَّهُ فَعَلَهُ لِضِيقِ الْمَكَانِ كَقَوْلِ الْمُصَنِّفِ، أَوْ مَا قَالَ الْحَازِمِيُّ إنَّهُ مَنْسُوخٌ لِأَنَّهُ إنَّمَا نَعْلَمُ هَذِهِ الصَّلَاةَ بِمَكَّةَ إذْ فِيهَا التَّطْبِيقُ، وَأَحْكَامٌ أُخْرَى هِيَ الْآنَ مَتْرُوكَةٌ وَهَذَا مِنْ جُمْلَتِهَا. وَلَمَّا قَدِمَ ﷺ الْمَدِينَةَ تَرَكَهُ بِدَلِيلِ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ «جَابِرٍ قَالَ سِرْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي غَزْوَةٍ فَقَامَ يُصَلِّي، فَجِئْتُ حَتَّى قُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَدَارَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَجَاءَ ابْنُ صَخْرٍ حَتَّى قَامَ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَنَا بِيَدَيْهِ جَمِيعًا فَدَفَعَنَا حَتَّى أَقَامَنَا خَلْفَهُ» فَهَذَا دَالٌّ، عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْآخِرُ لِأَنَّ جَابِرًا إنَّمَا شَهِدَ الْمَشَاهِدَ الَّتِي بَعْدَ بَدْرٍ انْتَهَى. وَغَايَةُ مَا فِيهِ خَفَاءُ النَّاسِخِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ إذَا لَمْ يَكُنْ دَأْبُهُ ﷺ إلَّا إمَامَةَ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ دُونَ الِاثْنَيْنِ إلَّا فِي النُّدْرَةِ كَهَذِهِ الْقِصَّةِ. وَحَدِيثُ الْيَتِيمِ وَهُوَ فِي دَاخِلِ بَيْتِ امْرَأَةٍ فَلَمْ يَطَّلِعْ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى خِلَافِ مَا عَلِمَهُ، وَحَدِيثُ الْيَتِيمِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ «عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: قُومُوا فَلِأُصَلِّيَ لَكُمْ، فَقُمْتُ إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لَبِسَ فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ، فَقَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَصَفَفْتُ أَنَا وَالْيَتِيمُ وَرَاءَهُ وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا فَصَلَّى لَنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ». وَمَرْجِعُ ضَمِيرِ جَدَّتِهِ إِسْحَاقُ، وَهِيَ أُمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالْيَتِيمُ هُوَ ضَمْرَةُ بْنُ سَعْدٍ الْحِمْيَرِيُّ، قَالَ النَّوَوِيُّ: لَكِنْ عَلَى كِلَا الْجَوَابَيْنِ لَا يَتَّجِهُ ثُبُوتُ الْإِبَاحَةِ أَمَّا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ فَسْخِ سُنِّيَّةِ مَا فَعَلَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ﵁ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَلِأَنَّ عِلَّةَ قَوْلِنَا إذَا نُسِخَ صِفَةُ الْوُجُوبِ لَا تَبْقَى صِفَةُ الْجَوَازِ: أَعْنِي الْإِبَاحَةَ هِيَ أَنَّ الْإِبَاحَةَ بِمَعْنَى رَفْعِ الْحَرَجِ عَنْ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ بِخِطَابِ ذَلِكَ لَيْسَتْ ثَابِتَةً فِي ضِمْنِ الْوُجُوبِ لِيَصْدُقَ انْتِفَاءُ الْحَقِيقَةِ بِرَفْعِ جُزْئِهَا وَيَبْقَى الْجُزْءُ الْآخَرُ لِأَنَّهَا قَسِيمَتُهُ لِمُنَافَاتِهَا لَهُ بِالْفِعْلِ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ هُنَا لِعَدَمِ الِاسْتِوَاءِ فِي السُّنِّيَّةِ لِتَرَجُّحِ جَانِبِ الْفِعْلِ، فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ فِي ضِمْنِهَا الْإِبَاحَةُ الْمَذْكُورَةُ، وَجُزْءُ حَقِيقَتِهَا عَدَمُ تَرَجُّحِ الْفِعْلِ بِعَيْنِ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ فَفِي ثُبُوتِهَا مَوْقُوفًا عَلَى خُصُوصِ دَلِيلٍ فِيهَا وَلَمْ يُوجَدْ، وَأَمَّا عَلَى جَوَابِ الْمُصَنِّفِ فَلِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ دَفْعِهِ ﷺ الرَّجُلَيْنِ أَبْلَغُ مِنْ الْمَنْعِ الْقَوْلِيِّ وَهُوَ يَنْفِي الْإِبَاحَةَ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ التَّوَسُّطُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَيْهِ، وَمَا رَوَاهُ أَنَسٌ عَلَى السُّنِّيَّةِ حَمْلًا لِرَفْعِ التَّعَارُضِ بِنَاءً عَلَى أَنْ لَا قَائِلَ بِالْقَلْبِ وَدَفْعُ الرَّجُلَيْنِ لِإِقَامَةِ السُّنَّةِ لَا لِلْكَرَاهَةِ. وَفِي الْكَافِي: وَإِنْ كَثُرَ الْقَوْمُ كُرِهَ قِيَامُ الْإِمَامِ وَسَطَهُمْ لِأَنَّ تَقَدُّمَ الْإِمَامِ سُنَّةٌ لِمُوَاظَبَتِهِ ﷺ وَالْإِعْرَاضُ عَنْ سُنَّتِهِ مَكْرُوهٌ انْتَهَى. وَالْحَقُّ أَنْ يُعَلَّلَ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ لِأَنَّ مُقْتَضَى فِعْلِهِ التَّقَدُّمُ عَلَى الْكَثِيرِ مِنْ غَيْرِ تَرْكِ الْوُجُوبِ، فَيَكُونُ التَّوَسُّطُ مَكْرُوهًا كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ، وَهُوَ صَرِيحُ الْهِدَايَةِ فِيمَا قَدَّمْنَا فِي صَدْرِ إقَامَةِ الْمَرْأَةِ النِّسَاءَ حَيْثُ قَالَ: لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ ارْتِكَابِ مُحَرَّمٍ وَهُوَ قِيَامُ الْإِمَامِ وَسَطَ الصَّفِّ، وَلَوْ قَامَ فِي يَمْنَةِ الصَّفِّ أَوْ يَسْرَتِهِ أَسَاءُوا، وَلَوْ قَامَ وَاحِدٌ بِجَنْبِ الْإِمَامِ وَخَلْفَهُ صَفٌّ يُكْرَهُ بِالْإِجْمَاعِ، كَذَا فِي الدِّرَايَةِ، وَفِيهَا الْأَصَحُّ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَكْرَهُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقُومَ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ أَوْ زَاوِيَةِ أَوْ نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute