إلَّا أَنَّ الْأَرْبَعَ أَفْضَلُ خُصُوصًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَالْأَرْبَعُ قَبْلَ الظُّهْرِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ
الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، إمَّا بِأَنَّ الْأَرْبَعَ كَانَ يُصَلِّيهَا فِي بَيْتِهِ فَاتَّفَقَ عَدَمُ عِلْمِ ابْنِ عُمَرَ بِهِنَّ، وَإِنْ عَلِمَ غَيْرَهَا مِمَّا صَلَّى فِي بَيْتِهِ لِأَنَّهُ ﷺ كَانَ يُصَلِّي الْكُلَّ فِي الْبَيْتِ، ثُمَّ كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرَاهُمَا.
وَإِمَّا بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ إنَّمَا يَذْكُرُ سُنَّةَ الظُّهْرِ وَهُوَ كَانَ يَرَى تِلْكَ وِرْدًا آخَرَ سَبَبُهُ الزَّوَالُ وَهُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ الْحَلْوَانِيُّ فِيمَا قَدَّمْنَا أَخْذًا مِنْ بَعْضِ الْأَلْفَاظِ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ «أَنَّهُ ﷺ كَانَ يُصَلِّي أَرْبَعًا بَعْدَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ وَقَالَ إنَّهَا سَاعَةٌ تُفْتَحُ فِيهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، فَأُحِبُّ أَنْ يَصْعَدَ لِي فِيهَا عَمَلٌ صَالِحٌ» وَعِنْدَنَا هَذَا اللَّفْظُ لَا يَنْفِي كَوْنَهَا هِيَ السُّنَّةُ، وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا بِالِاسْتِدْلَالِ بِعَيْنِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ سُنَّةَ الْجُمُعَةِ كَالظُّهْرِ لِعَدَمِ الْفَصْلِ فِيهِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْجُمُعَةِ أَوْ بِكُلٍّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَحَدِيثِ عَلِيٍّ وَهُوَ «كَانَ ﷺ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ» وَأَصْرَحُ مِنْ الْكُلِّ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ «كَانَ ﷺ يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثُمَّ يَدْخُلُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ».
فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْمُوَاظَبَةَ، ثُمَّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ كَوْنُ الْأَرْبَعِ بَعْدَ الْعِشَاءِ سُنَّةً لِنَقْلِ الْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهَا فِي أَبِي دَاوُد عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ قَالَ: «سَأَلْتُ عَائِشَةَ ﵂ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَتْ مَا صَلَّى الْعِشَاءَ قَطُّ فَدَخَلَ بَيْتِي إلَّا صَلَّى فِيهِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ أَوْ سِتَّ رَكَعَاتٍ، وَلَقَدْ مُطِرْنَا مَرَّةً مِنْ اللَّيْلِ فَطَرَحْنَا لَهُ نِطْعًا فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى ثُقْبٍ فِيهِ يَنْبُعُ مِنْهُ الْمَاءُ وَمَا رَأَيْتُهُ مُتَّقِيًا الْأَرْضَ بِشَيْءٍ مِنْ ثِيَابِهِ» وَهَذَا نَصٌّ فِي مُوَاظَبَتِهِ ﷺ عَلَى الْأَرْبَعِ دُونَ السِّتِّ لِلْمُتَأَمِّلِ (قَوْلُهُ إلَّا أَنَّ الْأَرْبَعَ أَفْضَلُ) نَشْرَحُهُ فِي ضِمْنِ كَلَامِنَا عَلَى الْأَرْبَعِ بَعْدَ الظُّهْرِ فَنَقُولُ: صَرَّحَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَرْبَعٌ بَعْدَ الظُّهْرِ لِحَدِيثٍ رَوَوْهُ، وَهُوَ أَنَّهُ ﷺ قَالَ «مَنْ صَلَّى أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ وَأَرْبَعًا بَعْدَهَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ»
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ هَذَا الْعَصْرِ فِي أَنَّهَا تُعْتَبَرُ غَيْرَ رَكْعَتَيْ الرَّاتِبَةِ أَوْ بِهِمَا وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي هَلْ تُؤَدَّى مَعَهُمَا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ لَا؟ فَقَالَ جَمَاعَةٌ لَا لِأَنَّهُ إنْ نَوَى عِنْدَ التَّحْرِيمَةِ السُّنَّةَ لَمْ يَصْدُقْ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي، أَوْ الْمُسْتَحَبَّ لَمْ يَصْدُقْ فِي السُّنَّةِ، وَإِذَا قَالُوا: إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ وَهُوَ فِي التَّهَجُّدِ نَابَتْ تِلْكَ الرَّكْعَتَانِ عَنْ سُنَّةِ الْفَجْرِ لِأَنَّ نِيَّةَ الصَّلَاةِ نِيَّةُ الْأَعَمِّ، وَالْأَعَمُّ يَصْدُقُ عَلَى الْأَخَصِّ، بِخِلَافِ الْمُبَايِنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مُبَايِنِهِ، وَوَقَعَ عِنْدِي أَنَّهُ إذَا صَلَّى أَرْبَعًا بَعْدَ الظُّهْرِ بِتَسْلِيمَةٍ أَوْ ثِنْتَيْنِ وَقَعَ عَنْ السُّنَّةِ وَالْمَنْدُوبِ سَوَاءٌ احْتَسَبَ هُوَ الرَّاتِبَةَ مِنْهَا أَوْ لَا، لِأَنَّ الْمُفَادَ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ إذَا أَوْقَعَ بَعْدَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا مُطْلَقًا حَصَلَ الْوَعْدُ الْمَذْكُورُ، وَذَلِكَ صَادِقٌ مَعَ كَوْنِ الرَّاتِبَةِ مِنْهَا، وَكَوْنِهَا بِتَسْلِيمَةٍ أَوَّلًا فِيهِمَا وَكَوْنِ الرَّكْعَتَيْنِ لَيْسَتَا بِتَسْلِيمَةٍ عَلَى حِدَةٍ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِهَا سُنَّةً، وَإِنْ كَانَ عَدَمُ كَوْنِهَا بِتَحْرِيمَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ يُمْنَعُ مِنْهُ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ كَمَا عُرِفَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ مِنْ الْهِدَايَةِ فِيمَنْ قَامَ عَنْ الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ يَظُنُّهَا الْأُولَى، ثُمَّ لَمْ يَعُدْ حَتَّى سَجَدَ فَإِنَّهُ يُتِمُّ سِتًّا، وَلَا تَنُوبُ الرَّكْعَتَانِ عَنْ سُنَّةِ الظُّهْرِ عَلَى خِلَافٍ لِأَنَّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَيْهِمَا بِتَحْرِيمَةٍ مُبْتَدَأَةٍ لِثُبُوتِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُحَلِّلِ وَالتَّحْرِيمَةِ، فَإِنَّ الْمُحَلِّلَ غَيْرُ مَقْصُودٍ إلَّا لِلْخُرُوجِ عَنْ الْعِبَادَةِ عَلَى وَجْهٍ حَسَنٍ.
وَقَدْ مُنِعَ فِي الْهِدَايَةِ فِي بَابِ الْقِرَانِ تَرْجِيحُ الشَّافِعِيِّ الْإِفْرَادَ بِزِيَادَةِ الْحَلْقِ بِأَنَّهُ خُرُوجٌ عَنْ الْعِبَادَةِ فَهُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ فَلَا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ.
وَأَمَّا النِّيَّةُ فَلَا مَانِعَ مِنْ جِهَتِهَا سَوَاءٌ نَوَى أَرْبَعًا لِلَّهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute