وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ مِمَّا لَا يَتَكَرَّرُ فَيُؤَخَّرُ عَنْ السَّلَامِ حَتَّى لَوْ سَهَا عَنْ السَّلَامِ يَنْجَبِرُ بِهِ،
الْمُوَافِقِ لِرَأْيِنَا لِلُزُومِ التَّسَاقُطِ بِالتَّعَارُضِ يَلْزَمُ كَوْنُ السُّجُودِ بَعْدَ السَّلَامِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ الْقَوْلِيِّ فَيُنَافِيهِ كَوْنُ الْخِلَافِ فِي الْأَوْلَوِيَّةِ حَتَّى لَوْ سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ عِنْدَنَا يَجُوزُ.
فَالْجَوَابُ مَا قَدْ رُوِيَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ قَبْلَ السَّلَامِ لَا يَجُوزُ فَلَا إشْكَالَ عَلَى هَذِهِ، وَعَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ فَلُزُومُ التَّسَاقُطِ عِنْدَ عَدَمِ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِالْمُتَعَارَضِينَ جَمِيعًا، وَهُنَا يُمْكِنُ إذْ الْمَعْنَى الْمَعْقُولُ مِنْ شَرْعِيَّةِ السُّجُودِ وَهُوَ الْجَبْرُ لَا يَنْتَفِي بِوُقُوعِهِمَا قَبْلَ السَّلَامِ فَيَجُوزُ كَوْنُ الْفِعْلَيْنِ بَيَانًا لِجَوَازِ الْأَمْرَيْنِ، وَأَوْلَوِيَّةُ أَحَدِهِمَا وَهُوَ إيقَاعُهُ بَعْدَ السَّلَامِ هُوَ الْمُرَادُ بِالْقَوْلِ، وَيُؤَكِّدُهُ الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ تَأَخَّرَ عَنْ زَمَانِ الْعِلَّةِ وَهُوَ وَقْتُ وُقُوعِ السَّهْوِ تَفَادِيًا عَنْ تَكْرَارِهِ، إذْ الشَّرْعُ لَمْ يَرِدْ بِهِ فَأُخِّرَ لِيَكُونَ جَبْرًا لِكُلِّ سَهْوٍ يَقَعُ فِي الصَّلَاةِ وَمَا لَمْ يُسَلِّمْ فَتَوَهُّمُ السَّهْوِ ثَابِتٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ ثُمَّ شَكَّ أَنَّهُ صَلَّى ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا فَشَغَلَهُ ذَلِكَ حَتَّى أَخَّرَ السَّلَامَ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّى أَرْبَعًا فَإِنَّهُ لَوْ سَجَدَ بِهَذَا النَّقْصِ بِتَأْخِيرِ الْوَاجِبِ تَكَرَّرَ، وَإِنْ لَمْ يَسْجُدْ بَقِيَ نَقْصًا لَازِمًا غَيْرَ مَجْبُورٍ فَاسْتُحِبَّ أَنْ يُؤَخَّرَ بَعْدَ السَّلَامِ لِهَذَا الْمُجَوِّزِ.
وَهَذَا دَلِيلٌ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْأَوْلَوِيَّةِ. وَفِي الْخُلَاصَةِ لَوْ سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ لَا تَجِبُ إعَادَتُهَا بَعْدَ السَّلَامِ فَإِنْ قُلْت: لِمَ لَمْ يُحْمَلْ اخْتِلَافُ الْفِعْلَيْنِ عَلَى التَّوْزِيعِ عَلَى مَوْرِدَيْهِمَا، وَمَوْرِدُ السُّجُودِ قَبْلَ السَّلَامِ كَانَ فِي النَّقْصِ وَمَوْرِدُهُ بَعْدَهُ كَانَ لِلزِّيَادَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْخَبَرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ قَوْلُ مَالِكٍ وَهَذَا الْمَأْخَذُ مَأْخَذُهُ.
فَالْجَوَابُ كَانَ ذَلِكَ مُحَتَّمًا لَوْ لَمْ يَثْبُتْ قَوْلُهُ ﷺ «لِكُلِّ سَهْوٍ، أَوْ فِي كُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ» فَلَمَّا وَرَدَ ذَلِكَ لَزِمَ حَمْلُ اخْتِلَافِ الْفِعْلَيْنِ عَلَى بَيَانِ جَوَازِ كِلَا الْأَمْرَيْنِ، غَيْرَ أَنَّ الْأَوْلَى وُقُوعُهُ بَعْدَ السَّلَامِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ بِهَذَا الَّذِي صِرْنَا إلَيْهِ يَقَعُ الْجَمْعُ بَيْنَ كُلِّ الْمَرْوِيَّاتِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ وَذَلِكَ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ، بِخِلَافِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ.
فَإِنْ قُلْت: كَمَا تَعَارَضَتْ رِوَايَتَا فِعْلِهِ كَذَلِكَ تَعَارَضَتْ رِوَايَاتُ قَوْلِهِ، فَإِنَّ فِي الصَّحِيحِ حَدِيثَ الْخُدْرِيِّ عَنْهُ ﷺ «إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا فَلْيَطْرَحْ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ» وَغَيْرَهُ أَيْضًا فَالْجَوَابُ الْكَلَامُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَمْ يُعَارِضْ حَدِيثَ ثَوْبَانَ فِيهِ دَلِيلٌ قَوْلِيٌّ أَنَّهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ مَحَلُّهُ قَبْلَ السَّلَامِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ وَسَائِرُ أَمْثَالِهِ مِنْ الْقَوْلِيَّاتِ خَاصَّةٌ فِي الشَّكِّ وَلَيْسَ الْكَلَامُ الْآنَ فِي هَذَا، عَلَى أَنَّ الْقَوْلِيَّةَ فِي الشَّكِّ قَدْ تَعَارَضَتْ أَيْضًا، رَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ «مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَمَا يُسَلِّمُ» وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، قِيلَ وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ. وَأَحْسَنُ مِنْهُ مَا فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ﵁ «صَلَّى النَّبِيُّ ﷺ فَزَادَ أَوْ نَقَصَ، فَلَمَّا سَلَّمَ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَدَثَ شَيْءٌ فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ فَثَنَى رِجْلَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: إنَّهُ لَوْ حَدَثَ شَيْءٌ أَنْبَأْتُكُمْ بِهِ، وَلَكِنْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute