(وَلَا تُشْتَرَى بِهَا رَقَبَةٌ تُعْتَقُ) خِلَافًا لِمَالِكٍ ذَهَبَ إلَيْهِ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ وَلَنَا أَنَّ الْإِعْتَاقَ إسْقَاطُ الْمِلْكِ وَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ.
(وَلَا تُدْفَعُ إلَى غَنِيٍّ) لِقَوْلِهِ ﷺ «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ» وَهُوَ بِإِطْلَاقٍ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ ﵀ فِي غَنِيِّ الْغُزَاةِ. وَكَذَا حَدِيثُ مُعَاذٍ ﵁ عَلَى مَا رَوَيْنَا.
قَالَ (وَلَا يَدْفَعُ الْمُزَكِّي زَكَاتَهُ إلَى أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَإِنْ عَلَا، وَلَا إلَى وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ) لِأَنَّ مَنَافِعَ الْأَمْلَاكِ بَيْنَهُمْ مُتَّصِلَةٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّمْلِيكُ
عَنْ عَيْنٍ، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَى فَقِيرٍ يَنْوِيهِ عَنْ زَكَاتِهِ جَازَ عَنْ ذَلِكَ الدَّيْنِ نَفْسِهِ لَا عَنْ عَيْنٍ وَلَا دَيْنٍ آخَرَ.
(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ ﵊ «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ») أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ التِّرْمِذِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ ﵊ «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ» حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَفِيهِ رَيْحَانُ بْنُ زَيْدٍ تُكُلِّمَ فِيهِ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ أَعْرَابِيٌّ صَدَقَ. وَلِهَذَا الْحَدِيثِ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كُلُّهُمْ يَرْوِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَأَحْسَنُهَا عِنْدِي مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ قَالَ أَخْبَرَنِي رَجُلَانِ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ يُقَسِّمُ الصَّدَقَةَ فَسَأَلَاهُ، فَرَفَعَ فِينَا الْبَصَرَ وَخَفَضَهُ فَرَآنَا جَلْدَيْنِ، فَقَالَ إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ». قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: مَا أَجْوَدَهُ مِنْ حَدِيثٍ هُوَ أَحْسَنُهَا إسْنَادًا، فَهَذَا مَعَ حَدِيثِ مُعَاذٍ يُفِيدُ مَنْعَ غَنِيِّ الْغُزَاةِ وَالْغَارِمِينَ عَنْهَا، فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي تَجْوِيزِهِ لِغَنِيِّ الْغُزَاةِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ فِي الدِّيوَانِ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ الْفَيْءِ.
وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْفُقَرَاءَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ صِنْفٌ وَاحِدٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَقَامَ مَقَامُ إرْسَالِ الْبَيَانِ لِأَهْلِ الْيَمَنِ وَتَعْلِيمِهِمْ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ فُقَرَائِهِمْ مَنْ اتَّصَفَ بِصِفَةِ الْفَقْرِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ غَارِمًا أَوْ غَازِيًا، فَلَوْ كَانَ الْغَنِيُّ مِنْهُمَا مَصْرِفًا كَانَ فَوْقَ الْبَيَانِ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إبْقَاءً لِلْجَهْلِ الْبَسِيطِ، وَفِي هَذَا إيقَاعُهُمْ فِي الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْغِنَى مُطْلَقًا لَيْسَ يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَيْهِ غَازِيًا أَوْ غَيْرَهُ، فَإِذَا فُرِضَ أَنَّهُ خِلَافُ الْوَاقِعِ لَزِمَ مَا قُلْنَا وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ فَلَا يَجُوزُ مَا يُفْضِي إلَيْهِ مَعَ أَنَّ نَفْسَ الْأَسْمَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ تُفِيدُ أَنَّ الْمَنَاطَ فِي الدَّفْعِ إلَيْهِمْ الْحَاجَةُ لِمَا عُرِفَ مِنْ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالْمُشْتَقِّ أَنَّ مَبْدَأَ اشْتِقَاقِهِ عِلَّتُهُ، وَمَأْخَذُ الِاشْتِقَاقَاتِ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ تُنَبِّهُ عَلَى قِيَامِ الْحَاجَةِ، فَالْحَاجَةُ هِيَ الْعِلَّةُ فِي جَوَازِ الدَّفْعِ إلَّا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ، فَإِنَّ مَأْخَذَ اشْتِقَاقِهِ يُفِيدُ أَنَّ الْمَنَاطَ التَّأْلِيفُ وَإِلَّا الْعَامِلُ فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّهُ الْعَمَلُ، وَفِي كَوْنِ الْعَمَلِ سَبَبًا لِلْحَاجَةِ تَرَدُّدٌ فَإِنَّهُ ظَاهِرًا يَكُونُ لَهُ أَعْوِنَةٌ وَخَدَمٌ وَيُهْدَى إلَيْهِ وَغَالِبًا تَطِيبُ نَفْسُ إمَامِهِ لَهُ بِكَثِيرٍ مِمَّا يُهْدَى إلَيْهِ فَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ الْفَقْرُ فِي حَقِّهِ بِالشَّكِّ.
وَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَمَالِكٌ عَنْهُ ﵊ «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا لِخَمْسَةٍ: الْعَامِلِ عَلَيْهَا وَرَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ، وَغَارِمٍ وَغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَجُلٍ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ فَأَهْدَاهَا إلَى الْغَنِيِّ» قِيلَ: لَمْ يَثْبُتْ، وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يَقْوَ قُوَّةَ حَدِيثِ مُعَاذٍ فَإِنَّهُ رَوَاهُ أَصْحَابُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ مَعَ قَرِينَةٍ مِنْ الْحَدِيثِ الْآخَرِ.
وَلَوْ قَوِيَ قُوَّتَهُ تَرَجَّحَ حَدِيثُ مُعَاذٍ بِأَنَّهُ مَانِعٌ، وَمَا رَوَاهُ مُبِيحٌ مَعَ أَنَّهُ دَخَلَهُ التَّأْوِيلُ عِنْدَهُمْ حَيْثُ قَيَّدَ الْأَخْذَ لَهُ بِأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ شَيْءٌ فِي الدِّيوَانِ وَلَا أَخَذَ مِنْ الْفَيْءِ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ يُضْعِفُ الدَّلَالَةَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا لَمْ يَدْخُلْهُ تَأْوِيلٌ
(قَوْلُهُ وَلَا يَدْفَعُ الْمُزَكِّي زَكَاتَهُ إلَخْ) الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ انْتَسَبَ إلَى الْمُزَكِّي بِالْوِلَادِ أَوْ انْتَسَبَ هُوَ لَهُ بِهِ لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا لَهُ، فَلَا يَجُوزُ لِأَبِيهِ وَأَجْدَادِهِ وَجَدَّاتِهِ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَإِنْ عَلَوْا، وَلَا إلَى أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِهِمْ وَإِنْ سَفَلُوا،