للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هُوَ يَعْتَبِرُ خَوْفَ الْهَلَاكِ أَوْ فَوَاتَ الْعُضْوِ كَمَا يَعْتَبِرُ فِي التَّيَمُّمِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ زِيَادَةَ الْمَرَضِ وَامْتِدَادَهُ قَدْ يُفْضِي إلَى الْهَلَاكِ فَيَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ (وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا لَا يَسْتَضِرُّ بِالصَّوْمِ فَصَوْمُهُ أَفْضَلُ، وَإِنْ أَفْطَرَ جَازَ) لِأَنَّ السَّفَرَ لَا يَعْرَى عَنْ الْمَشَقَّةِ فَجُعِلَ نَفْسُهُ عُذْرًا، بِخِلَافِ الْمَرَضِ فَإِنَّهُ قَدْ يُخَفَّفُ بِالصَّوْمِ فَشُرِطَ كَوْنُهُ مُفْضِيًا إلَى الْحَرَجِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْفِطْرُ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ «لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» وَلَنَا أَنَّ رَمَضَانَ أَفْضَلُ الْوَقْتَيْنِ فَكَانَ الْأَدَاءُ فِيهِ أَوْلَى، وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْجَهْدِ (وَإِذَا مَاتَ الْمَرِيضُ أَوْ الْمُسَافِرُ وَهُمَا عَلَى حَالِهِمَا يَلْزَمُهُمَا الْقَضَاءُ)

أَوْ مُقِيمًا.

(قَوْلُهُ هُوَ يَعْتَبِرُ خَوْفَ الْهَلَاكِ) الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ أَصْحَابِهِمْ أَنَّهُ كَقَوْلِنَا. وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ يُبِيحُ الْفِطْرَ لِكُلِّ مَرِيضٍ، لَكِنَّ الْقَطْعَ بِأَنَّ شَرْعِيَّةَ الْفِطْرِ لَهُ إنَّمَا هُوَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ، وَتَحَقُّقُ الْحَرَجِ مَنُوطٌ بِزِيَادَةِ الْمَرَضِ أَوْ إبْطَاءِ الْبُرْءِ أَوْ فَسَادِ عُضْوٍ، ثُمَّ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِ الْمَرِيضِ، وَالِاجْتِهَادُ غَيْرُ مُجَرَّدِ الْوَهْمِ، بَلْ هُوَ غَلَبَةُ الظَّنِّ عَنْ أَمَارَةٍ أَوْ تَجْرِبَةٍ أَوْ بِإِخْبَارِ طَبِيبٍ مُسْلِمٍ غَيْرِ ظَاهِرِ الْفِسْقِ، وَقِيلَ عَدَالَتُهُ شَرْطٌ، فَلَوْ بَرِئَ مِنْ الْمَرَضِ لَكِنَّ الضَّعْفَ بَاقٍ وَخَافَ أَنْ يَمْرَضَ سُئِلَ عَنْهُ الْقَاضِي الْإِمَامُ فَقَالَ: الْخَوْفُ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَفِي الْخُلَاصَةِ: لَوْ كَانَ نَوْبَةُ حُمَّى فَأَكَلَ قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ يَعْنِي فِي يَوْمِ النَّوْبَةِ لَا بَأْسَ بِهِ.

(قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْفِطْرُ أَفْضَلُ) وَالْحَقُّ أَنَّ قَوْلَهُ كَقَوْلِنَا وَلَمْ يُحْكَ ذَلِكَ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَسَنُورِدُهُ. وَقَوْلُ الظَّاهِرِيَّةِ إنَّهُ لَا يَجُوزُ الصَّوْمُ لِهَذَا الْحَدِيثِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ فَجَعَلَ السَّبَبَ فِي حَقِّهِ إدْرَاكَ الْعِدَّةِ فَلَا يَجُوزُ قَبْلَ السَّبَبِ (قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ رَمَضَانَ أَفْضَلُ الْوَقْتَيْنِ) وَالصَّوْمُ فِي أَفْضَلِ وَقْتَيْ الصَّوْمِ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: إنْ أَرَدْتُمْ أَنَّهُ أَفْضَلُ فِي حَقِّ صَوْمِ الْمُقِيمِ فَلَا يُفِيدُ، وَإِنْ مُطْلَقًا مَنَعْنَاهُ، وَنُسْنِدُهُ بِمَا رَوَيْنَا وَتَلَوْنَا قُلْنَا: نَخْتَارُ الثَّانِيَ، وَجْهُهُ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى فِي رَمَضَانَ ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ وَمَا رَوَيْتُمْ مَخْصُوصٌ بِسَبَبِهِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ كَانَ فِي سَفَرٍ، فَرَأَى زِحَامًا وَرَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا صَائِمٌ، فَقَالَ: لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» وَكَذَا مَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ إلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ فَصَامَ النَّاسُ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَشَرِبَهُ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ، فَقَالَ: أُولَئِكَ الْعُصَاةُ» مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ اسْتَضَرَّوْا بِهِ بِدَلِيلِ مَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي لَفْظٍ فِيهِ «فَقِيلَ لَهُ إنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمْ الصَّوْمُ».

وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ فِي الْمَغَازِي، وَفِيهِ «وَكَانَ أَمَرَهُمْ بِالْفِطْرِ فَلَمْ يَقْبَلُوا» وَالْعِبْرَةُ وَإِنْ كَانَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ، لَكِنْ يُحْمَلُ عَلَيْهِ دَفْعًا لِلْمُعَارَضَةِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ فَإِنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ، فَفِي مُسْلِمٍ عَنْ «حَمْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجِدُ فِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ فَهَلْ عَلَيَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>