يُعْتَبَرَ مِنْ الثُّلُثِ، وَالصَّلَاةُ كَالصَّوْمِ بِاسْتِحْسَانِ الْمَشَايِخِ، وَكُلُّ صَلَاةٍ تُعْتَبَرُ بِصَوْمِ يَوْمٍ
«جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ فَقَالَ: لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ» وَفِي رِوَايَةٍ «جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ الْحَدِيثَ، إلَى أَنْ قَالَ فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ».
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ ﵂ عَنْهُ ﵊ «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» قُلْنَا: الِاتِّفَاقُ عَلَى صَرْفِ الْأَوَّلِ عَنْ ظَاهِرِهِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي الصَّلَاةِ الدَّيْنُ، وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄، وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى أَنَّهُ قَالَ " لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ " وَفَتْوَى الرَّاوِي عَلَى خِلَافِ مَرْوِيِّهِ بِمَنْزِلَةِ رِوَايَتِهِ لِلنَّاسِخِ، وَنَسْخُ الْحُكْمِ يَدُلُّ عَلَى إخْرَاجِ الْمَنَاطِ عَنْ الِاعْتِبَارِ، وَلِذَا صَرَّحُوا بِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ مَنْسُوخًا لِأَنَّ التَّعْدِيَةَ بِالْجَامِعِ، وَنَسْخُ الْحُكْمِ يَسْتَلْزِمُ إبْطَالَ اعْتِبَارِهِ، إذْ لَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا لَاسْتَمَرَّ تَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ ﵁ نَحْوُهُ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ بَلَاغًا فَقَالَ مَالِكٌ: وَلَمْ أَسْمَعْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا مِنْ التَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - بِالْمَدِينَةِ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ أَمَرَ أَحَدًا أَنْ يَصُومَ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يُصَلِّيَ عَنْ أَحَدٍ اهـ.
وَهَذَا مِمَّا يُؤَيِّدُ النَّسْخَ، وَأَنَّهُ الْأَمْرُ الَّذِي اسْتَقَرَّ الشَّرْعُ عَلَيْهِ آخِرًا، وَإِذَا أُهْدِرَ كَوْنُ الْمَنَاطِ الدَّيْنَ فَإِنَّمَا يُعَلَّلُ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ عَنْ الْمَيِّتِ عَلَى الْوَارِثِ بِدَيْنِ الْعِبَادِ فَإِنَّهُ مَحَلُّ الِاتِّفَاقِ، وَلَيْسَ هُوَ الْكَائِنَ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْوَارِثِ إلَّا بِالْإِيصَاءِ، ثُمَّ إذَا أَوْصَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا بِقَدْرِ الثُّلُثِ إلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ، وَعَلَى هَذَا دَيْنُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالنَّفَقَةُ الْوَاجِبَةِ وَالْكَفَّارَاتُ الْمَالِيَّةُ وَالْحَجُّ وَفِدْيَةُ الصِّيَامَاتِ الَّتِي عَلَيْهِ وَالصَّدَقَةُ الْمَنْذُورَةُ وَالْخَرَاجُ وَالْجِزْيَةُ، وَهَذَا لِأَنَّ هَذِهِ بَيْنَ عُقُوبَةٍ وَعِبَادَةٍ، فَمَا كَانَ عِبَادَةً فَشَرْطُ إجْزَائِهَا النِّيَّةُ لِيَتَحَقَّقَ أَدَاؤُهَا مُخْتَارًا فَيَظْهَرَ اخْتِيَارُهُ الطَّاعَةَ مِنْ اخْتِيَارِهِ الْمَعْصِيَةَ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ التَّكْلِيفِ، وَفِعْلُ الْوَارِثِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ الْمُبْتَلَى بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا يُحَقِّقُ اخْتِيَارَهُ، بَلْ لَمَّا مَاتَ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ وَلَا أَمْرٍ بِهِ فَقَدْ تَحَقَّقَ عِصْيَانُهُ بِخُرُوجِهِ مِنْ دَارِ التَّكْلِيفِ وَلَمْ يَمْتَثِلْ، وَذَلِكَ يُقَرِّرُ عَلَيْهِ مُوجَبَ الْعِصْيَانِ، إذْ لَيْسَ فِعْلُ الْوَارِثِ الْفِعْلَ الْمَأْمُورَ بِهِ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الْوَاجِبُ، كَمَا لَوْ تَبَرَّعَ بِهِ حَالَ حَيَاتِهِ وَمَا كَانَ فِيهَا مَعَ ذَلِكَ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ، فَلَا يَخْفَى أَنَّهُ فَاتَ فِيهِ الْأَمْرَانِ إذْ لَمْ يَتَحَقَّقْ إيقَاعُ مَا يَسْتَشِقُّهُ مِنْهُ لِيَكُونَ زَاجِرًا لَهُ، بِخِلَافِ دُيُونِ الْعِبَادِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْأَمْرِ بِأَدَائِهَا وُصُولُ الْمَالِ إلَى مَنْ هُوَ لَهُ لِيَدْفَعَ بِهِ حَاجَتَهُ، وَلِذَا إذَا ظَفِرَ مَنْ لَهُ بِجِنْسِهِ كَانَ لَهُ أَخْذُهُ وَيَسْقُطُ عَنْ ذِمَّةِ مَنْ عَلَيْهِ فَلَزِمَتْ مِنْ غَيْرِ إيصَاءٍ لِتَحَقُّقِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِفِعْلِ الْوَارِثِ هُنَا، وَعَنْ هَذَا قُلْنَا: لَا يُورَثُ خِيَارُ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةُ لِأَنَّهُ رَأْيٌ كَانَ لِلْمَيِّتِ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْعَيْنِ فِي الْمَعْنَى اُحْتُبِسَ عِنْدَ الْبَائِعِ.
وَإِذَا عَلِمْت مَا ذَكَرْنَا عَلِمْت أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا هِيَ الْأَفْعَالُ إذْ بِهَا تَظْهَرُ الطَّاعَةُ وَالِامْتِثَالُ، وَمَا كَانَ مَالِيًّا مِنْهَا، فَالْمَالُ مُتَعَلِّقُ الْمَقْصُودِ: أَعْنِي الْفِعْلَ، وَقَدْ سَقَطَتْ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا بِالْمَوْتِ لِتَعَذُّرِ ظُهُورِ طَاعَتِهِ بِهَا فِي دَارِ التَّكْلِيفِ، فَكَانَ الْإِيصَاءُ بِالْمَالِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُهَا تَبَرُّعًا مِنْ الْمَيِّتِ ابْتِدَاءً فَيُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ، بِخِلَافِ دَيْنِ الْعِبَادِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهَا نَفْسُ الْمَالِ لَا الْفِعْلُ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي التَّرِكَةِ فَيُؤْخَذُ مِنْهَا بِلَا إيصَاءٍ.
(قَوْلُهُ وَالصَّلَاةُ كَالصَّوْمِ بِاسْتِحْسَانِ الْمَشَايِخِ) وَجْهُهُ: أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ قَدْ ثَبَتَتْ شَرْعًا بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْإِطْعَامِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute