(وَإِذَا جُومِعَتْ النَّائِمَةُ أَوْ الْمَجْنُونَةُ وَهِيَ صَائِمَةٌ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا اعْتِبَارًا بِالنَّاسِي، وَالْعُذْرُ هُنَا أَبْلَغُ لِعَدَمِ الْقَصْدِ. وَلَنَا أَنَّ النِّسْيَانَ يَغْلِبُ وُجُودُهُ وَهَذَا نَادِرٌ، وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِانْعِدَامِ الْجِنَايَةِ.
فَيَصِيرُ كَمَنْ لَمْ يَصُمْ، وَحِكَايَةُ الْإِجْمَاعِ بِنَاءٌ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ خِلَافِ الظَّاهِرِيَّةِ فِي هَذَا فَإِنَّهُ حَادِثٌ بَعْدَمَا مَضَى السَّلَفُ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ مَا قُلْنَا، وَيُرِيدُ بِالْحَدِيثِ قَوْلَهُ ﵊ «مَا صَامَ مَنْ ظَلَّ يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ» رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَإِسْحَاقُ فِي مُسْنَدِهِ وَزَادَ «إذَا اغْتَابَ الرَّجُلُ فَقَدْ أَفْطَرَ» وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ «أَنَّ رَجُلَيْنِ صَلَّيَا صَلَاةَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَكَانَا صَائِمَيْنِ فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ ﷺ الصَّلَاةَ قَالَ: أَعِيدَا وُضُوءَكُمَا وَصَلَاتَكُمَا وَامْضِيَا فِي صَوْمِكُمَا وَاقْضِيَا يَوْمًا آخَرَ. قَالَا: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: اغْتَبْتُمَا فُلَانًا» وَفِيهِ أَحَادِيثُ أُخَرُ، وَالْكُلُّ مَدْخُولٌ. وَلَوْ لَمَسَ أَوْ قَبَّلَ امْرَأَةً بِشَهْوَةٍ أَوْ ضَاجَعَهَا وَلَمْ يُنْزِلْ فَظَنَّ أَنَّهُ أَفْطَرَ فَأَكَلَ عَمْدًا كَانَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إلَّا إذَا تَأَوَّلَ حَدِيثًا أَوْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا، فَأَفْطَرَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَخْطَأَ الْفَقِيهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ الْحَدِيثُ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْفَتْوَى وَالْحَدِيثِ يَصِيرُ شُبْهَةً، كَذَا فِي الْبَدَائِعِ. وَفِيهِ: لَوْ دَهَنَ شَارِبَهُ فَظَنَّ أَنَّهُ أَفْطَرَ فَأَكَلَ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا أَوْ تَأَوَّلَ حَدِيثًا لِمَا قُلْنَا، يَعْنِي: مَا ذَكَرَهُ فِيمَنْ اغْتَابَ فَظَنَّ أَنَّهُ أَفْطَرَ فَأَكَلَ عَمْدًا مِنْ قَوْلِهِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا أَوْ تَأَوَّلَ حَدِيثًا لِأَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِفَتْوَى الْفَقِيهِ وَلَا بِتَأْوِيلِهِ الْحَدِيثَ هُنَا لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَشْتَبِهُ عَلَى مَنْ لَهُ سِمَةٌ مِنْ الْفِقْهِ، وَلَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الْمَرْوِيِّ «الْغَيْبَةَ تُفْطِرُ الصَّائِمَ» حَقِيقَةَ الْإِفْطَارِ، فَلَمْ يَصِرْ ذَلِكَ شُبْهَةً
(قَوْلُهُ أَوْ الْمَجْنُونَةُ) قِيلَ: كَانَتْ فِي الْأَصْلِ الْمَجْبُورَةُ فَصَحَّفَهَا الْكُتَّابُ إلَى الْمَجْنُونَةِ، وَعَنْ الْجُوزَجَانِيِّ قُلْت لِمُحَمَّدٍ: كَيْفَ تَكُونُ صَائِمَةً وَهِيَ مَجْنُونَةٌ؟ فَقَالَ لِي: دَعْ هَذَا فَإِنَّهُ انْتَشَرَ فِي الْأُفُقِ. وَعَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ قُلْت لِمُحَمَّدٍ: هَذِهِ الْمَجْنُونَةُ فَقَالَ: لَا بَلْ الْمَجْبُورَةُ أَيْ الْمُكْرَهَةُ، قُلْت: أَلَا نَجْعَلُهَا مَجْبُورَةً؟ فَقَالَ بَلَى، ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ وَقَدْ سَارَتْ بِهَا الرِّكَابُ؟ دَعُوهَا، فَهَذَانِ يُؤَيِّدَانِ كَوْنَهُ كَانَ فِي الْأَصْلِ الْمَجْبُورَةِ فَصُحِّفَ، ثُمَّ لَمَّا انْتَشَرَ فِي الْبِلَادِ لَمْ يُفِدْ التَّغْيِيرُ وَالْإِصْلَاحُ فِي نُسْخَةٍ وَاحِدَةٍ فَتَرَكَهَا لِإِمْكَانِ تَوْجِيهِهَا أَيْضًا، وَهُوَ بِأَنْ تَكُونَ عَاقِلَةٌ نَوَتْ الصَّوْمَ فَشَرَعَتْ ثُمَّ جُنَّتْ فِي بَاقِي النَّهَارِ، فَإِنَّ الْجُنُونَ لَا يُنَافِي الصَّوْمَ إنَّمَا يُنَافِي شَرْطَهُ؛ أَعْنِي النِّيَّةَ، وَقَدْ وُجِدَ فِي حَالِ الْإِفَاقَةِ، فَلَا يَجِبُ قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ إذَا أَفَاقَتْ كَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي رَمَضَانَ لَا يَقْضِي الْيَوْمَ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ الْإِغْمَاءُ وَقَضَى مَا بَعْدَهُ لِعَدَمِ النِّيَّةِ فِيمَا بَعْدَهُ، بِخِلَافِ الْيَوْمِ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا جُومِعَتْ هَذِهِ الَّتِي جُنَّتْ صَائِمَةً تَقْضِي ذَلِكَ الْيَوْمَ لِطُرُوِّ الْمُفْسِدِ عَلَى صَوْمٍ صَحِيحٍ، وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ، وَقَدَّمْنَا أَوَّلَ بَابِ مَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُكْرَهِ وَالنَّاسِي مَا يُغْنِي عَنْ الْإِعَادَةِ هُنَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute