للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(وَإِنْ نَوَى يَمِينًا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ) يَعْنِي. إذَا أَفْطَرَ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ سِتَّةٍ: إنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا أَوْ نَوَى النَّذْرَ لَا غَيْرَ، أَوْ نَوَى النَّذْرَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ يَمِينًا يَكُونُ نَذْرًا لِأَنَّهُ نَذَرَ بِصِيغَتِهِ. كَيْفَ وَقَدْ قَرَّرَهُ بِعَزِيمَتِهِ؟ وَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ نَذْرًا يَكُونُ يَمِينًا، لِأَنَّ الْيَمِينَ مُحْتَمِلٌ كَلَامَهُ وَقَدْ عَيَّنَهُ وَنَفَى غَيْرَهُ، وَإِنْ نَوَاهُمَا يَكُونُ نَذْرًا وَيَمِينًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَكُونُ نَذْرًا، وَلَوْ نَوَى الْيَمِينَ فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ يَكُونُ يَمِينًا. لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ النَّذْرَ فِيهِ حَقِيقَةٌ وَالْيَمِينَ مَجَازٌ حَتَّى لَا يَتَوَقَّفَ الْأَوَّلُ عَلَى النِّيَّةِ، وَيَتَوَقَّفَ الثَّانِي فَلَا يَنْتَظِمُهُمَا، ثُمَّ الْمَجَازُ يَتَعَيَّنُ بِنِيَّتِهِ، وَعِنْدَ نِيَّتِهِمَا تَتَرَجَّحُ الْحَقِيقَةُ.

سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ «أَلَا لَا تَصُومُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ» إلَخْ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ الْمُجَرَّدَ عَنْ الصَّوَارِفِ لَيْسَ مُوجِبُهُ بَعْدَ طَلَبِ التَّرْكِ سِوَى كَوْنِ مُبَاشَرَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَعْصِيَةً سَبَبًا لِلْعِقَابِ لَا الْفَسَادِ، أَمَّا لُغَةً فَظَاهِرٌ لِظُهُورِ حُدُوثِ مَعْنَى الْفَسَادِ، وَأَمَّا شَرْعًا: فَكَذَلِكَ بَلْ لَا يَسْتَلْزِمُهُ فِي الْعِبَادَاتِ وَلَا الْمُعَامَلَاتِ لِتَحَقُّقِ مُوجِبِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا: أَعْنِي الْمَنْعَ الْمُنْتَهِضَ سَبَبًا لِلْعِقَابِ مَعَ الصِّحَّةِ، كَمَا فِي الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ، وَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، وَمَعَ الْعَبَثِ الَّذِي لَا يَصِلُ إلَى إفْسَادِ الصَّلَاةِ، وَكَثِيرٍ.

فَعُلِمَ أَنَّ ثُبُوتَ الْفَسَادِ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَاهُ بَلْ إنَّمَا يَثْبُتُ لِأَمْرٍ آخَرَ هُوَ كَوْنُهُ لِأَمْرٍ فِي ذَاتِهِ، فَمَا لَمْ يُعْقَلْ فِيهِ ذَلِكَ بَلْ كَانَ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ نَفْسِ الْفِعْلِ مُتَّصِلٍ بِهِ لَا يُوجِبُ فِيهِ الْفَسَادَ، وَإِلَّا لَكَانَ إيجَابًا بِغَيْرِ مُوجِبٍ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ حِينَئِذٍ مُجَرَّدُ مُوجِبِهِ وَهُوَ التَّحْرِيمُ أَوْ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ بِحَسَبِ حَالِهِ مِنْ الظَّنِّيَّةِ وَالْقَطْعِيَّةِ.

إذَا عُرِفَ هَذَا فَقَدْ أَثْبَتْنَا فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ تَمَامَ مُوجِبِ النَّهْيِ حَتَّى قُلْنَا إنَّهُ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْعِقَابِ، وَلَمْ يَثْبُتْ الْفَسَادُ لَوْ فَعَلَ لِعَدَمِ مُوجِبِهِ لِعَقْلِيَّةِ أَنَّهُ لِأَمْرٍ خَارِجٍ فَتَكُونُ الْمَعْصِيَةُ لِاعْتِبَارِهِ لَا لِنَفْسِ الْفِعْلِ أَوْ لِمَا فِي نَفْسِهِ فَيَصِحُّ النَّذْرُ أَثَرًا لِتَصَوُّرِ الصِّحَّةِ، وَيَجِبُ أَنْ لَا يَفْعَلَ لِلْمَعْصِيَةِ فَيَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّ الصِّحَّةَ بِالِانْتِهَاضِ سَبَبًا لِلْآثَارِ الشَّرْعِيَّةِ وَمِنْهَا هَذَا، وَكَمْ مَوْضِعٍ يَثْبُتُ فِيهِ الْوُجُوبُ لِيَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي الْقَضَاءِ لَا الْأَدَاءِ لِحُرْمَتِهِ كَصَوْمِ رَمَضَانَ فِي حَقِّ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، وَالِاسْتِقْرَاءُ يُوجِدُكَ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ.

فَلَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْقَوَاعِدِ التَّحْقِيقِيَّةِ، وَغَايَةُ مَا بَقِيَ بَيَانُ أَنَّ النَّهْيَ فِيهِ لِأَمْرٍ خَارِجٍ، وَلَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ أَنَّ الصَّوْمَ الَّذِي هُوَ مَنْعُ النَّفْسِ مُشْتَهَاهَا لَا يُعْقَلُ فِي نَفْسِهِ سَبَبًا لِلْمَنْعِ، بَلْ كَوْنُهُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ يَسْتَلْزِمُ الْإِعْرَاضَ عَنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْآثَارِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَضْيَافُ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ.

بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: نَذَرَ بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ وَهُوَ

<<  <  ج: ص:  >  >>