وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْن الْجِهَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا يَقْتَضِيَانِ الْوُجُوبَ إلَّا أَنَّ النَّذْرَ يَقْتَضِيهِ لِعَيْنِهِ وَالْيَمِينَ لِغَيْرِهِ،
مَنْفِيٌّ شَرْعًا فَلَا وُجُودَ لَهُ فَلَا يَنْعَقِدُ، أَمَّا الْأُولَى: فَظَاهِرَةٌ.
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِمَا فِي سُنَنِ الثَّلَاثَةِ عَنْ عَائِشَةَ ﵂ عَنْهُ ﵊ «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» قُلْنَا: الْمُرَادُ نَفْيُ جَوَازِ الْإِيفَاءِ بِهِ نَفْسِهِ لَا نَفْيُ انْعِقَادِهِ، لِمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ النَّسَائِيّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «النَّذْرُ نَذْرَانِ، فَمَنْ كَانَ نَذَرَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ فَذَلِكَ لِلَّهِ فِيهِ الْوَفَاءُ، وَمَنْ كَانَ نَذَرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَذَلِكَ لِلشَّيْطَانِ فَلَا وَفَاءَ وَيُكَفِّرُهُ مَا يُكَفِّرُ الْيَمِينَ» فَإِيجَابُ الْكَفَّارَةِ فِي النَّصِّ يُفِيدُ أَنَّهُ انْعَقَدَ وَلَمْ يُلْغَ، وَأَنَّ الْمَنْفِيَّ الْوَفَاءُ بِهِ بِعَيْنِهِ، فَكَذَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ ﵂ فَكَانَ وِزَانَ قَوْلِهِ ﵊ «لَا يَمِينَ فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ» مَعَ أَنَّهَا تَنْعَقِدُ لِلْكَفَّارَةِ.
غَيْرَ أَنَّ الِانْعِقَادَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ يَكُونُ لِأَمْرَيْنِ: لِلْقَضَاءِ فِيمَا إذَا كَانَ جِنْسُ الْمَنْذُورِ مِمَّا يَخْلُو بَعْضُ أَفْرَادِهِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ كَمَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ الصَّوْمَ وَهُوَ الْجِنْسُ كَذَلِكَ فَيَجِبُ الْفِطْرُ وَالْقَضَاءُ فِي يَوْمٍ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ، وَلِلْكَفَّارَةِ إنْ كَانَ لَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْ أَفْرَادِهِ عَنْهَا كَالنَّذْرِ بِالزِّنَا وَبِالسُّكْرِ إذَا قَصَدَ الْيَمِينَ فَيَنْعَقِدُ لِلْكَفَّارَةِ، وَهُوَ مَحْمَلُ الْحَدِيثِ وَإِلَّا فَيَلْغُو ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي انْعِقَادِهِ، وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَنْعَقِدَ مُطْلَقًا لِلْكَفَّارَةِ إذَا تَعَذَّرَ الْفِعْلُ، وَعَلَيْهِ مَشَى الْمَشَايِخُ.
قَالَ الطَّحَاوِيُّ ﵀: لَوْ أَضَافَ النَّذْرَ إلَى سَائِرِ الْمَعَاصِي كَقَوْلِهِ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَقْتُلَ فُلَانًا كَانَ يَمِينًا وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ اهـ.
وَإِنَّمَا لَا يَلْزَمُ الْيَمِينُ بِلَفْظِ النَّذْرِ إلَّا بِالنِّيَّةِ فِي نَذْرِ الطَّاعَةِ كَالْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ عَلَى مَا هُوَ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ، فَلَا تُجْزِئُ الْكَفَّارَةُ عَنْ الْفِعْلِ.
وَبِهِ أَفْتَى السُّغْدِيُّ، وَهُوَ الظَّاهِرُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ﵁، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَقَالَ: تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ، قَالَ السَّرَخْسِيُّ: وَهَذَا اخْتِيَارِي لِكَثْرَةِ الْبَلْوَى بِهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ. قَالَ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الصَّدْرِ الشَّهِيدِ فِي فَتَاوَاهُ الصُّغْرَى، وَبِهِ يُفْتَى. وَعَلَى صِحَّةِ النَّذْرِ يَصُومُ يَوْمَ النَّحْرِ لَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَا ذُكِرَ لِدَلِيلٍ عِنْدَهُمْ يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَعَلَى هَذَا فَمَا ذَكَرُوا مِنْ أَنَّ شَرْطَ النَّذْرِ كَوْنُهُ بِمَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ كَوْنُ الْمَعْصِيَةِ بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ حَتَّى لَا يَنْفَكَّ شَيْءٌ مِنْ أَفْرَادِ الْجِنْسِ عَنْهَا، وَإِذَا صَحَّ النَّذْرُ فَلَوْ فَعَلَ نَفْسَ الْمَنْذُورِ عَصَى وَانْحَلَّ النَّذْرُ كَالْحَلِفِ بِالْمَعْصِيَةِ يَنْعَقِدُ لِلْكَفَّارَةِ، فَلَوْ فَعَلَ الْمَعْصِيَةَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهَا سَقَطَتْ وَأَثِمَ.
(قَوْلُهُ وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ) الْكَائِنَتَيْنِ لِهَذَا اللَّفْظِ، وَهُوَ لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا جِهَةُ الْيَمِينِ وَجِهَةُ النَّذْرِ (لِأَنَّهُمَا) أَيْ الْيَمِينَ وَالنَّذْرَ (يَقْتَضِيَانِ الْوُجُوبَ) أَيْ وُجُوبَ مَا تَعَلَّقَا بِهِ، لَا فَرْقَ سِوَى.
(أَنَّ النَّذْرَ يَقْتَضِيهِ لِعَيْنِهِ) وَهُوَ وَفَاءُ الْمَنْذُورِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾ (وَالْيَمِينَ لِغَيْرِهِ) وَهُوَ صِيَانَةُ اسْمِهِ تَعَالَى،