وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ لِأَنَّ فِي الْقَلِيلِ ضَرُورَةً.
قَالَ (وَأَمَّا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالنَّوْمُ يَكُونُ فِي مُعْتَكَفِهِ)
بِغَيْرِ عُذْرٍ يُفِيدُ أَنَّهُ إذَا كَانَ لِعُذْرٍ لَا يَفْسُدُ. وَعَلَيْهِ مَشَى بَعْضُهُمْ فِيمَا إذَا خَرَجَ لِانْهِدَامِ الْمَسْجِدِ إلَى مَسْجِدٍ آخَرَ. أَوْ أَخْرَجَهُ سُلْطَانٌ. أَوْ خَافَ عَلَى مَتَاعِهِ فَخَرَجَ، وَحُكِمَ بِالْفَسَادِ إذَا خَرَجَ لِجِنَازَةٍ وَإِنْ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ، أَوْ لِنَفِيرٍ عَامٍّ أَوْ لِأَدَاءِ شَهَادَةٍ. وَاَلَّذِي فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَالْخُلَاصَةُ: أَنَّ الْخُرُوجَ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا بِأَنْ أَخْرَجَهُ السُّلْطَانُ أَوْ الْغَرِيمُ. أَوْ خَرَجَ لِبَوْلٍ فَحَبَسَهُ الْغَرِيمُ سَاعَةً. أَوْ خَرَجَ لِعُذْرِ الْمَرَضِ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀، وَعَلَّلَ قَاضِي خَانْ فِي الْخُرُوجِ لِلْمَرَضِ بِأَنَّهُ لَا يَغْلِبُ وُقُوعُهُ فَلَمْ يَصِرْ مُسْتَثْنًى عَنْ الْإِيجَابِ، فَأَفَادَ هَذَا التَّعْلِيلُ الْفَسَادَ فِي الْكُلِّ، وَعَنْ هَذَا فَسَدَ إذَا عَادَ مَرِيضًا أَوْ شَهِدَ جِنَازَةً.
وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ النَّهْيُ عَنْهُ مُطْلَقًا، فَأَفَادَ أَنَّهُ لَوْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ أَيْضًا يَفْسُدُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِهِ كَالْخُرُوجِ لِلْمَرَضِ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ إلَّا أَنَّهُ يَفْسُدُ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُسْتَثْنًى حَيْثُ لَمْ يَغْلِبْ وُقُوعُ تَعَيُّنِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ عَلَى وَاحِدٍ مُعْتَكِفٍ بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ.
فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ وُقُوعُهَا فَكَانَتْ مُسْتَثْنَاةً. وَعَلَى هَذَا إذَا خَرَجَ لِإِنْقَاذِ غَرِيقٍ أَوْ حَرِيقٍ أَوْ جِهَادٍ عَمَّ نَفِيرُهُ يَفْسُدُ وَلَا يَأْثَمُ. وَهَذَا الْمَعْنَى يُفِيدُ أَيْضًا أَنَّهُ إذَا انْهَدَمَ الْمَسْجِدُ فَخَرَجَ إلَى آخَرَ يَفْسُدُ لِأَنَّهُ لَيْسَ غَالِبَ الْوُقُوعِ، وَنَصَّ عَلَى فَسَادِهِ بِذَلِكَ قَاضِي خَانْ وَغَيْرُهُ.
وَتَفَرُّقُ أَهْلِهِ وَانْقِطَاعُ الْجَمَاعَةِ مِنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ. وَنَصَّ الْحَاكِمُ أَبُو الْفَضْلِ فَقَالَ فِي الْكَافِي: وَأَمَّا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَاعْتِكَافُهُ فَاسِدٌ إذَا خَرَجَ سَاعَةً لِغَيْرِ غَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ جُمُعَةٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعُذْرَ الَّذِي لَا يَغْلِبُ مُسْقِطٌ لِلْإِثْمِ لَا لِلْبُطْلَانِ وَإِلَّا لَكَانَ النِّسْيَانُ أَوْلَى بِعَدَمِ الْإِفْسَادِ لِأَنَّهُ عُذْرٌ ثَبَتَ شَرْعًا اعْتِبَارُ الصِّحَّةِ مَعَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُخْرِجَ رَأْسَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَى بَعْضِ أَهْلِهِ لِيَغْسِلَهُ أَوْ يُرَجِّلَهُ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ فِعْلِهِ ﵊، وَإِنْ غَسَلَهُ فِي الْمَسْجِدِ فِي إنَاءٍ بِحَيْثُ لَا يُلَوِّثُ الْمَسْجِدَ لَا بَأْسَ بِهِ.
وَصُعُودُ الْمِئْذَنَةِ إنْ كَانَ بَابُهَا مِنْ خَارِجِ الْمَسْجِدِ لَا يُفْسِدُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا فِي حَقِّ الْمُؤَذِّنِ لِأَنَّ خُرُوجَهُ لِلْأَذَانِ مَعْلُومٌ فَيَكُونُ مُسْتَثْنًى.
أَمَّا غَيْرُهُ فَيُفْسِدُ اعْتِكَافَهُ، وَصَحَّحَ قَاضِي خَانْ أَنَّهُ قَوْلُ الْكُلِّ فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ أَقْيَسُ بِمَذْهَبِ الْإِمَامِ. وَفِي شَرْحِ الصَّوْمِ لِلْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ: الْمُعْتَكِفُ يَخْرُجُ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ شَاهِدٌ آخَرَ فَيَتْوَى حَقُّهُ. وَلَوْ أَحْرَمَ الْمُعْتَكِفُ بِحَجٍّ لَزِمَهُ إذْ لَا يُنَافِيهِ. وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ إلَّا إذَا خَافَ فَوْتَ الْحَجِّ فَيَخْرُجُ حِينَئِذٍ وَيَسْتَقْبِلُ الِاعْتِكَافَ.
وَلَوْ احْتَلَمَ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ تَلْوِيثٍ فَعَلَ، وَإِلَّا خَرَجَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ يَعُودُ.
(قَوْلُهُ وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ) يَقْتَضِي تَرْجِيحَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمَعْدُودَةِ الَّتِي رَجَحَ فِيهَا الْقِيَاسُ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ. ثُمَّ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِحْسَانِ بِالضَّرُورَةِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَاسْتِنْبَاطٌ مِنْ عَدَمِ أَمْرِهِ إذَا خَرَجَ إلَى الْغَائِطِ أَنْ يُسْرِعَ الْمَشْيَ، بَلْ يَمْشِي عَلَى التُّؤَدَةِ وَبِقَدْرِ الْبُطْءِ تَتَخَلَّلُ السَّكَنَاتُ بَيْنَ الْحَرَكَاتِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي فَنِّ الطَّبِيعَةِ، وَبِذَلِكَ يَثْبُتُ قَدْرٌ مِنْ الْخُرُوجِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْحَاجَةِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْقَلِيلَ عَفْوٌ فَجَعَلْنَا الْفَاصِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَثِيرِ أَقَلَّ مِنْ أَكْثَرِ الْيَوْمِ أَوْ اللَّيْلَةِ لِأَنَّ مُقَابِلَ الْأَكْثَرِ يَكُونُ قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، وَأَنَا لَا أَشُكُّ أَنَّ مَنْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَى السُّوقِ لِلَّعِبِ وَاللَّهْوِ أَوْ الْقِمَارِ مِنْ بَعْدِ الْفَجْرِ إلَى مَا قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ كَمَا هُوَ قَوْلُهُمَا، ثُمَّ قَالَ " يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا مُعْتَكِفٌ.
قَالَ: مَا أَبْعَدَك عَنْ الْعَاكِفِينَ " وَلَا يُتِمُّ مَبْنَى هَذَا الِاسْتِحْسَانُ فَإِنَّ الضَّرُورَةَ الَّتِي يُنَاطُ