قَالَ (فَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ ابْتَدَأَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ ﵊ كَمَا دَخَلَ مَكَّةَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ» وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ زِيَارَةُ الْبَيْتِ وَهُوَ فِيهِ، وَلَا يَضُرُّهُ لَيْلًا دَخَلَهَا أَوْ نَهَارًا لِأَنَّهُ دُخُولُ بَلْدَةٍ فَلَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِهِمَا (وَإِذَا عَايَنَ الْبَيْتَ كَبَّرَ وَهَلَّلَ) وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - يَقُولُ: إذَا لَقِيَ الْبَيْتَ بِاسْمِ اللَّهِ اللَّهُ أَكْبَرُ. وَمُحَمَّدٌ ﵀ لَمْ يُعَيِّنْ فِي الْأَصْلِ لِمَشَاهِدِ الْحَجِّ شَيْئًا مِنْ الدَّعَوَاتِ لِأَنَّ التَّوْقِيتَ يُذْهِبُ بِالرِّقَّةِ
إلَى يُونُسَ عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ خِطَامُ نَاقَتِهِ لِيفٌ خُلْبَةٌ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ لَهُ مِنْ صُوفٍ مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي مُلَبِّيًا» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ قَوْلِنَا لَا يُجْهِدُ نَفْسَهُ بِشِدَّةِ رَفْعِ صَوْتِهِ وَبَيْنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى اسْتِحْبَابِ رَفْعِ الصَّوْتِ بِشِدَّةٍ إذْ لَا تَلَازُمَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْإِجْهَادِ، إذْ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ جَهْوَرِيَّ الصَّوْتِ عَالِيَهُ طَبْعًا فَيَحْصُلُ الرَّفْعُ الْعَالِي مَعَ عَدَمِ تَعَبِهِ بِهِ.
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ الْحَجِّ وَالسَّبِيلُ فِيمَا هُوَ كَذَلِكَ الْإِظْهَارُ وَالْإِشْهَارُ كَالْأَذَانِ وَنَحْوِهِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ الْمُعَلِّمِ لِلْخَيْرِ ﷺ إذَا فَرَغَ مِنْ التَّلْبِيَةِ، وَيَخْفِضَ صَوْتَهُ بِذَلِكَ
(قَوْلُهُ فَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ ابْتِدَاءً بِالْمَسْجِدِ) يَخْرُجُ مِنْ عُمُومِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «كَانَ ﵊ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ ثُمَّ يَجْلِسُ لِلنَّاسِ» وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ نَصًّا خَاصًّا عَنْهُ ﵊، وَمَعْنَاهُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ ﵂ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ» وَرَوَى أَبُو الْوَلِيدِ الْأَزْرَقِيُّ فِي تَارِيخِ مَكَّةَ بِسَنَدِهِ عَنْ عَطَاءٍ مُرْسَلًا «لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَكَّةَ لَمْ يَلْوِ عَلَى شَيْءٍ وَلَمْ يُعَرِّجْ، وَلَا بَلَغَنَا أَنَّهُ دَخَلَ بَيْتًا، وَلَا لَهَا بِشَيْءٍ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَبَدَأَ بِالْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ» وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَقْدِيمَ الرِّجْلِ الْيُمْنَى سُنَّةُ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْتَسِلَ لِدُخُولِ مَكَّةَ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ﵄ «كَانَ لَا يَقْدَمُ مَكَّةَ إلَّا بَاتَ بِذِي طُوًى حَتَّى يُصْبِحَ وَيَغْتَسِلَ ثُمَّ يَدْخُلَ مَكَّةَ نَهَارًا» وَيُذْكَرُ أَنَّهُ ﵊ فَعَلَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَيُسْتَحَبُّ لِلْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ كَمَا فِي غُسْلِ الْإِحْرَامِ، وَيَدْخُلُ مَكَّةَ مِنْ ثَنِيَّةِ كَدَاءٍ بِفَتْحِ الْكَافِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ هَمْزَةٌ: وَهِيَ الثَّنِيَّةُ الْعُلْيَا عَلَى دَرْبِ الْمُعَلَّى، وَإِنَّمَا سُنَّ لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي دُخُولِهِ مُسْتَقْبِلَ بَابِ الْبَيْتِ وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى قَاصِدِ الْبَيْتِ كَوَجْهِ الرَّجُلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى قَاصِدِهِ، وَكَذَا تُقْصَدُ كِرَامُ النَّاسِ. وَإِذَا خَرَجَ فَمِنْ السُّفْلَى لِمَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (قَوْلُهُ وَلَا يَضُرُّهُ لَيْلًا دَخَلَهَا أَوْ نَهَارًا) لِمَا رَوَى النَّسَائِيّ «أَنَّهُ ﵊ دَخَلَهَا لَيْلًا وَنَهَارًا. دَخَلَهَا فِي حَجِّهِ نَهَارًا وَلَيْلًا فِي عُمْرَتِهِ» وَهُمَا سَوَاءٌ فِي حَقِّ الدُّخُولِ لِأَدَاءِ مَا بِهِ الْإِحْرَامُ، وَلِأَنَّهُ دُخُولُ بَلَدٍ.
وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ﵁ " أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْ الدُّخُولِ لَيْلًا " فَلَيْسَ تَقْرِيرًا لِلسُّنَّةِ بَلْ شَفَقَةً عَلَى الْحَاجِّ مِنْ السُّرَّاقِ. وَيَقُولُ عِنْدَ دُخُولِهِ " اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُك، جِئْتُ لِأُؤَدِّيَ فَرْضَك، وَأَطْلُبَ رَحْمَتَك، وَأَلْتَمِسَ رِضَاك، مُتَّبِعًا لِأَمْرِك رَاضِيًا بِقَضَائِك، أَسْأَلُك مَسْأَلَةَ الْمُضْطَرِّينَ الْمُشْفِقِينَ مِنْ عَذَابِك أَنْ تَسْتَقْبِلَنِي الْيَوْمَ بِعَفْوِك، وَتَحْفَظَنِي بِرَحْمَتِك، وَتَتَجَاوَزَ عَنِّي بِمَغْفِرَتِك، وَتُعِينَنِي عَلَى أَدَاءِ فَرَائِضِك.
اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك، وَأَدْخِلْنِي فِيهَا، وَأَعِذْنِي مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ " وَكَذَا يَقُولُ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَكُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلَّ لَفْظٍ يَقَعُ بِهِ التَّضَرُّعُ وَالْخُشُوعُ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ، مِنْهُ دَخَلَ ﵊ (قَوْلُهُ وَإِذَا عَايَنَ الْبَيْتَ كَبَّرَ وَهَلَّلَ) ثَلَاثًا وَيَدْعُو بِمَا بَدَا لَهُ، وَعَنْ عَطَاءٍ «أَنَّهُ ﵊ كَانَ يَقُولُ إذَا لَقِيَ الْبَيْتَ أَعُوذُ بِرَبِّ الْبَيْتِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ، وَمِنْ ضِيقِ الصَّدْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ» وَمِنْ أَهَمِّ الْأَدْعِيَةِ طَلَبُ الْجَنَّةِ بِلَا حِسَابٍ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ (قَوْلُهُ وَلَمْ يُعَيِّنْ مُحَمَّدٌ ﵀ لِمُشَاهَدِ الْحَجِّ شَيْئًا مِنْ الدَّعَوَاتِ لِأَنَّ تَوْقِيتَهَا يُذْهِبُ بِالرِّقَّةِ)