مصوّر التاريخ الأدبي، ولا هي مناطه وغايته فما يمكن أن يفيد منه المرء إلا معرفة جدباء لا قيمة لها. والذين يريدون لنا أن لا نعرف أكثر مما في المجموعات والكتب إنما يرجعون بنا القهقرى. باسم التقدم الذي يدعون، إلى أسوأ النقائص التي كان عليها العلم في القرون الوسطى. وما كان عصر النهضة الرينسانس رائعا ذا أثر عظيم إلا لأنه، كما ينبغي أن لا ننسى، قد بدأ عمله بالذهاب إلى النص القديم، وطرح الشروح التي بين يديه.
ليس من شك في أن دراسة الأدب اليوم قد أصبحت لأغنية فيها عن الإطلاع الواسع الشامل، فما تستوي أحكامنا الأدبية، أو تتجه وجهة قويمة، إلا إذا تزودنا بطائفة من المعارف الصحيحة الموضوعية. هذا، ولسنا نعرف شيئا يفيد الباحث في الأدب مثل هذه المحاولات التي تصطنع طرائق العلم لتربط خواطرنا وانطباعاتنا بعضها ببعض، ولتمثل الدب في سيره ونموه وتطوره. بيد أن أمرين اثنين يجب أن لا نغفل هنا عن ذكرهما، أولهما أن تاريخ الأدب غايته رسم الأشخاص: وثانيهما أن تاريخ الأدب أساسه البصائر الفردية. كل همه كما ترى أن يبرزهما بالتجارب أو الطرائق التي يستطيع كل إنسان أن يعيدها ويتوسل بها، والتي تسوق واحدة عند الجميع، إنما يبرزهما باستخدام الملكات التي تسوق بالضرورة، لاختلافها بين إنسان وإنسان، إلى نتائج نسبية موقتة. وإذن فالمعرفة الأدبية ليست غايتها ولا وسائلهاعلمية في أدق ما لهذه الكلمة من المعاني.
والشأن في الأدب كالشأن في الفن، لا غنية فيه عن النظر إلى الآثار، وهي - لقابليتها التي ليست بذات انتهاء ولا حدود - لا يستطيع امرؤ أن يجزم أنه أتى عليها واستهلك فحواها واستخلص دستورها. وهذا معناه أن الأدب ليس مادة علمية، إنما هو مران وذوق ولذة، لا نتدارسه ولا نتعلمه، لكن نمارسه ونتثقف به ونحبه. إن أصدق كلمة قيلت بحق الأدب هي كلمة ديكارت: مطالعة الكتب الجيدة أشبه بالحديث مع أشرف رجالات القرون الغابرة، وهو حديث لا يمنحوننا فبه إلا خير أفكارهم.
فالرياضيون الذين أعرفهم يتسلون بالآداب، ويتفرجون على التمثيل، ويتصفحون الكتاب يجددون به خلق أنفسهم، هم عندي أصح فهما وأقوم سبيلا من أولئك الأدباء الذين أعرفهم لا يقرؤون الكتاب، لكن يعرّونه ثم يحسبون إنهم يحسنون صنعا حين يحيلون المطبوع الذي استولوا عليه إلى ما يشبه البطاقات واللوائح.