للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ذلك إن مناط الأدب أن يحدث قينا لذة، ولذة نفسية هي بمثابة إلهية عند ملكاتنا الفكرية، تخرج منها هذه الملكات وهي موفورة النشاط والمرونة والخصب. وكذلك يكون الدب أداة ثقاف باطني، فتلك وظيفته التي لا وظيفة له غيرها.

للأدب مزية رائعة عليا، هي أنه يعودنا على التلذذ بالأفكار. إنه يجعل المرء يرى في مران عقله البهجة والراحة والتجدد، لقد ينشط بصاحبه إلى مشاغل المهنة. ويرتفع بالذهن فوق جميع المعارف والمنافع والمعتقدات المسلكية، وهو على الجملة يخرج بالاختصاصين إلى نطاق الإنسانية العام. ولعل العقول أحوج ما تكون اليوم إلى منازع الفلسفة منها في أي زمن مضى، ولكن الدراسات الفلسفية الخالصة لن يتلقاها الناس جميعا بالرضى والقبول. وإنما الأدب في اسمي معاني الكلمة، هو الذي يشيع الفلسفة بين الناس. فمن خلاله وبواسطته تتصل الجماعات البشرية بأعظم التيارات الفلسفية التي تحدّد مدى الرقي والتقدم أو تحدد مدى التبدلات الاجتماعية على الأقل، ثم إن الأدب هو الذي يبث في النفوس التي أنهكتها ضرورات العيش، وغمرتها مشاغل المادة، روح القلق إزاء كبريات المسائل والمشاكل التي تتصل بالحياة فتجعل لها معنى أو هدفا، وكثير من العاصرين يرون الدين إلى ذبول، والعلم نائيا، فليس لهم غير الأدب وحده من مشاركات تنتزعهم من تلك الأنانية الضيقة أو من تلك المهنة القاسية.

إذا تقرر هذا كله، فما أقهم إذن كيف يدرسون الأدب لشيء غير التثقيف ولأمر غير اللذة. لا ريب في أن الذين يهيئون أنفسهم للتدريس إنما ينبغي لهم أن ينظموا معارفهم، وإن يخضعوا دراستهم للمناهج، يوجهونها وجهة المبادئ التي تفوق بدقتها وصحتها، وأن شئت فقل بروحها العلمية، ما يرضاه منها عادة هواة الآداب. بيد أن أمرين اثنين يجب أن لا نغفل هنا عن ذكرهما، أحدهما أن صاحب هذا العمل العلمي ربما صار أسوأ أستاذ أدب، لا يعمل على تنمية الذوق الأدبي عند الطلاب، ولا يدفع بهم إلى أن يجدوا في الأدب أقوى باعث على الفكر، وأدق منشط للعمل. وهذا ما يجب إن نرمي إليه من وراء دراسة الأدب، بدلا من أن نزود الطلاب بأجوبة يلفظونها في ساعة الفحص. أما الثاني فهو أن أحدا من الأساتذة لن يعرف كيف يكون لتدريسه أثر ومفعول، إذا لم يكن هو من هواة الأدب قبل أن يكون من علمائه. ثم إذا لم يكن قد ابتدأ بتثقيف نفسه بهذا الأدب الذي سيتخذه بعد حين أداة

<<  <  ج: ص:  >  >>